شاعر الحرية والمقاومة شيركو بيكه س يلملم أوراقه ويرحل.. - شاكر فريد حسن

ودع الدنيا قبل نحو اسبوعين الشاعر الكردي الكبير شيركو بيكه، الذي غيبه الموت في احد مستشفيات السويد اثر مرض عضال لم يمهله طويلا.

يعتبر شيركو بيكه أحد القامات الشعرية في الادب الانساني المعاصر، ومن رواد الشعر الكردي، ومن آباء قصيدة الحداثة النثرية، وأحد الأعلام المضيئة الساطعة في الأدب العراقي والثقافة الكردية. وهو ينتمي الى شعراء الحرية والكفاح والمقاومة والثورة على القهر والظلم والطغيان والديكتاتوريات. بدأ حياته الشعرية رومانسيا شغوفا بالطبيعة والجبال، لكن سرعان ما تحول الى شاعر كفاحي مقاتل بعد انخراطه في صفوف المقاومة والحركة الشعبية الكردية المناضلة لأجل الحرية والاستقلال والتحرر الوطني. وكان يرى في السياسة موقفا من الوجود والحياة والإبداع.

شيركو بيكه من مواليد كردستان العراق عام 1940، تفتحت شاعريته وموهبته في النظم في جيل مبكر، فنمَّى ملكته الشعرية بالقراءة والتسلح بالثقافة. قال الشعر وهتف به عاليا فأصغت جبال كردستان لنشيده وردد الشعب قصيده. ملأ سنوات عمره بعطاء أدبي خصب ووهج شعري متألق، وأضاء بشعره وفكره دروب عشاق الوجدان الصافي وشداه الإحساس الإنساني الصادق.

برع في كتابة قصيدة النثر، وتنوع نتاجه الأدبي بين النصوص القصيرة والطويلة والقصة الشعرية والمسرحية الشعرية. صدرت له أول مجموعة شعرية عام 1968 ثم توالت اعماله الشعرية بالصدور حيث بلغ عددها أكثر من 18 عملا شعريا آخرها ديوان شعري حمل اسم (استعجل.. ها قد وصل الموت) وكأنه أحس بأن الموت يقترب ويدنو منه. وترجمت أشعاره الى لغات عديدة. وفي العام 1970اسس حركة (روكانة ) الشعرية، ضمت عددا واسعا من الكتاب والمبدعين الكرد.

التحق شيركو بحركة المقاومة الكردية وبسبب نشاطه السياسي عانى الملاحقات السلطوية، وفي العام 1975 ابعد الى محافظة الأنبار غربي العراق وفرضت عليه الاقامة الجبرية لمدة 3 سنوات، وفي اواخر السبعينيات اعادته السلطات الى السليمانية. وفي منتصف 1984 انضم الى رجالات المقاومة الجديدة وعمل في إعلام المقاومة واتحاد أدباء كردستان في الجبل.

بعد ذلك قضى شيركو سنوات عديدة في المهجر بالسويد بعيدا عن وطنه، لكنه عاد في العام 1991 بعد نشوب الانتفاضة الجماهيرية الكردستانية، ورشح نفسه على رأس قائمة الخضر كمستقل وأصبح عضوا في أول برلمان كردي، ومن خلال البرلمان أصبح أول وزير للثقافة في اقليم كردستان، لكنه قدم استقالته من منصبه بعد عام ونيف احتجاجا على الخروقات الديمقراطية. ثم عاد للسويد وبقي فيها حتى وافته المنية.

إن الطابع المميز لأشعار شيركو هو التصاقها بالمكان وحركة الواقع السياسي واليومي وذاكرة الكرد الثقافية والسياسية والشعبية الجماعية، واقترابها من نبض الشارع والذائقة الجمالية الشعبية، وتعبيرها عن وجدان الناس وهمومهم وواقعهم المرير وآمالهم العريضة واحلامهم الخضراء وتطلعاتهم نحو المستقبل وأفق الحرية والانعتاق والعدالة ويوم الخلاص. انها أشعار تتسم بالطابع السياسي والوجداني والانساني، ويطغى على كلماتها وتعابيرها مسحة الحزن والشجن والأسى وذلك انعكاسا للمأساة والتراجيديا الكردية المستمرة والمتواصلة. وهي تتميز بالبساطة والوضوح والليونة، وتخلو من التكلف والصنعة اللفظية، ويوظف فيها السياسة والتاريخ والحكايات والأساطير والملاحم البطولية. ويمكن القول ان قصيدة شيركو ترسم ملامح الوطن المعذب، وتجسد الواقع الكردي وما يتعرض له الأكراد في العراق من عسف وظلم واضطهاد وتنكيل وقتل وارهاب وموت جماعي.

ومن جميل شعر شيركو هذه الأبيات الرقيقة المميزة من قصيدة "حلبجة تذهب الى بغداد "، التي تؤكد الوحدة العضوية بين الأرض والوطن والانسان، التي كان يحلم بها، ولا بد أن تتحقق يوما.. فيقول :

ستذهب حلبجة الى بغداد قريبا

عن طريق غزلان سهول( شيراونة )

حاملة معها سلة من الغيوم البيضاء

وخمسة آلاف فراشة

تنهض دجلة بوجل...

تنهض بكامل هيبتها.. وتحتضنها

ثم تضع طاقية الجواهري على رأسها

بعدها..

تقترب يمامتان من النجف

يغمر حنجرتيهما الهديل

ليحطا على كتفيها.

شيركو بيكه شاعر كردي انساني، مرهف الحس، جميل الايقاع، ناصع الأسلوب، رقيق المعنى، يموج بالحياة، حمل نفسا وحسا شعبيا حقيقيا ووجدان تجربة انسانية ونضالية صادقة، كرس كل مواهبه للأدب المنحاز ثقافة للحرية وقضايا الإنسان، الذي يوقظ في حس ومشاعر الناس كل احاسيس الكفاح والنضال والالتزام، وتبدو في مجمل كتاباته القضية الكردية معجونة بمداد قلمه السيال الذي غذاه وسقاه من دمه وروحه، فكان هذا القلم كالبندقية وكريشة الرسم، فكلها ادوات ووسائل للتعبير عن المعاناة والوجع والألم، والواقع القهري المأساوي للشعب المضطهد والدفاع عن قضيته الكبرى. وقد جاء شعره في شكله ومضمونه تعبيرا حيا وامينا عن قضايا شعبه ونضاله التحرري وتطلعه الى نيل الحقوق وتحقيق أهدافه الوطنية بالتحرر والاستقلال.

فيا شاعر الحرية والكفاح طوبى لك، والمجد لك، وسلاما لروحك من ثرى وأرض فلسطين التي تقاوم القهر والاحتلال وتنتظر انبلاج النهار. وستظل خالدا بأشعارك ونضالاتك وسيرتك المشرفة في ذاكرة الكرد والعراقيين والعرب أجمعين.


21/8/2013






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com