|
الفلسفة الماركسية تسعى إلى فهم العالم من أجل تغييره - د. خليل اندراوس
المادية التاريخية نظرية علمية فلسفية تعنى بدراسة الظواهر الاجتماعية والانسانية في ضوء مبادئ التحليل الماركسي بصورة عامة ومبادئ المادية الجدلية المعنية بظواهر الكون والطبيعة بصورة خاصة، فهي تستمد من المادية الجدلية مبادئها في تحليل الظواهر والوقائع الاجتماعية، اذ تعتمد اعتمادًا أساسيًا على المقولات الثلاث الأساسية المتمثلة بأن عمليات التراكم الكمية تؤدي إلى تغيرات كيفية، وأن التناقض بين مكونات الأشياء والظواهر يعد الأساس في حركتها – وما من شيء في الطبيعة والحياة الاجتماعية إلا ويحمل في مكوناته قدرًا من التناقض ينتج صراعًا مستمرًا بينها – وان الصراع بين المكونات يؤدي باستمرار إلى ما يعرف بنفي النفي. فكل مرحلة من مراحل التطور تنفي بالضرورة المرحلة السابقة ولا يمكن أن تتعايش المراحل مع بعضها إلا لفترات مؤقتة توصف بالتناقض ولا يمكن أن يكون بينها أي وفاق واستقرار.
إنّ أهمّ تعبير عن الانقلاب الثوري الذي أجرته الماركسية في الفلسفة هو تحقيق الوحدة العضوية بين المادية والجدلية، فنحن نعرف من تاريخ الفلسفة ان كلا من الجدلية والمادية قد نشأت قبل الماركسية لأمد طويل، لكن مصيبة الفلسفة القديمة تلخصت في أنّ المادية والجدلية فيها غالبا ما كانت منفصلة عن بعضها البعض فقد كان هيجل جدليا لكنه لم يكن ماديا، وكان فورباخ ماديا لكنه لم يكن جدليا. وقد اقام ماركس وانجلز جسرا على الهوة بين المادية والجدلية وحققا وحدتهما العضوية في نظرة مادية جدلية واحدة موحدة إلى العالم وتلك واحدة من أهم خصائص الفلسفة الماركسية التي تميزها نوعيا عن كل المذاهب الفلسفية السابقة. ظهور الماركسية يعتبر انقلابا لا بل ثورة عظيمة في النظرات إلى المجتمع، فالمادية التاريخية الماركسية هي نتاج تطبيق المنطق الجدلي على التطور التاريخي للمجتمع. كان الفلاسفة قبل ماركس يتحلون بفهم مثالي للتطور الاجتماعي فكانوا يرون أنّ القوى الدافعة لهذا التطور هي أفكار الناس، هي وعيهم ووضع ماركس وانجلز في مقابل الآراء المثالية الفهم المادي للتاريخ، وكانا أوّل من طرح وحل بطريقة سليمة المسألة الأساسية للفلسفة. مسألة العلاقة بين الفكر والوجود في تطبيقها على المجتمع وأثبتا بصورة لا تدحض أنّه ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم بل بالعكس، وجودهم الاجتماعي وفي المقام الأول انتاج القيم المادية هو الذي يحدّد وعيهم الاجتماعي، وان تطور المجتمع تحدّده أسباب مادية وليس أفكار الناس أو رغباتهم أو نواياهم، ونتيجة لذلك أصبح من الممكن فهم تاريخ المجتمع لا على أنه تجميع مشوش للظواهر بل كعملية حتمية ضرورية وخاضعة لقوانين معينة، عملية حلول أساليب أرقى للإنتاج محل الأساليب الأدنى، وأثبتا أن هذا الاستبدال لا يحدث بصورة عرضية وانما وفقًا لقوانين موضوعية مستقلة عن إرادة الانسان ووعيه، فالمادية التاريخية هي نتاج تطبيق المنطق الجدلي على التطور التاريخي للمجتمع. الفلسفة الماركسية ترى بالبناء الفوقي للمجتمع هو ناتج عن البناء التحتي، وبالتالي تعتبر البناء الفوقي للمجتمع من أخلاق وثقافة وسياسة ومؤسسات ووعي ناتج عن البناء التحتي الاقتصادي للمجتمع، لذلك نستطيع أن نقول إن موضوع المادية التاريخية هو دراسة المجتمع وتطوره، وخلافا لعلوم المجتمع المحددة، تدرس المادية التاريخية اهم قوانين التطور الاجتماعي فبحكم كونها جزءا لا يتجزأ من النظرة الماركسية – اللينينية إلى العالم تقدم المادية التاريخية تفسيرا علميا وماديا جدليا لظواهر الحياة الاجتماعية، وهي تعالج كذلك المسائل العامة الهامة للتطور التاريخي كالعلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي وأهمية الانتاج المادي في حياة الناس وأصل ودور الأفكار الاجتماعية والمؤسسات المناسبة لها. تساعدنا المادية التاريخية في فهم دور الشعوب والأفراد في التاريخ وكيف نشأت الطبقات وكيف ظهر كل من الصراع الطبقي والدولة ولماذا تحدث الثورات الاجتماعية وما هي أهميتها بالنسبة للعملية التاريخية، ولدى دراسة المجتمع تصوغ المادية التاريخية أيضًا المقولات أو المفاهيم المناسبة التي تعكس أكثر جوانب التطور الاجتماعي عمومية وجوهرية، ومن هذه المقولات مثلاً "الوجود الاجتماعي"، "الوعي الاجتماعي"، "أسلوب الانتاج"، "البناء التحتي"، و"البناء الفوقى" و"التقدم الاجتماعي" وكثير غيرها. ان قوانين ومقولات المادية التاريخية بمجملها هي التي تعطي الصورة المتجانسة المكتملة عن التطور الاجتماعي. ان المادية التاريخية هي الاساس المنهجي لجميع العلوم الاجتماعية الاخرى. انها تمكن العلماء – المؤرخين والاقتصاديين وغيرهم – من التضلع بالتشابك المعقد للظواهر الاجتماعية وتحديد مكان واهمية كل منها في الحياة الاجتماعية فبمعرفة الحكم الاساسي للمادية التاريخية القائل بالدور الحاسم للجماهير الشعبية في التطور الاجتماعي يمكن اكتشاف الطابع الحقيقي لهذه الاحداث التاريخية او تلك. ان معرفة قوانين المادية التاريخية لا تمكننا فقط من فهم الظواهر المعقدة للحياة الاجتماعية بل أيضًا من التأثير في هذه الحياة وتحويلها لصالح الطبقة العاملة لصالح جماهير الشعب الواسعة، لصالح بناء مجتمع المستقبل "في انتاج الناس الاجتماعي لحياتهم يدخلون في علاقات محددة ضرورية ومستقلة عن ارادتهم، وهي علاقات انتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الانتاجية المادية، ويشكل مجموع علاقات الانتاج هذه البنيان الاقتصادي للمجتمع، أي يشكل الأساس الحقيقي الذي يقوم فوقه صرح علوي قانوني وسياسي وتتماشى معه اشكال اجتماعية، فأسلوب انتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام، ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، انما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم". (مقدمة ماركس عام 1859 لكتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"). فماركس يبدأ بدراسة المجتمع الانساني من الواقع المادي الذي نعيش فيه، هذا هو الذي يحدد واقعنا الحي وليست الافكار التي نؤمن بها هي التي تحدد ذلك، وعلى الرغم من ذلك هناك تفاعل معقد بين الواقع المادي –البناء الاقتصادي التحتي للمجتمع وبين البناء الفوقي من ثقافة وسياسة وايديولوجيات ومؤسسات تبادر بشرح هذا الواقع، أو كثير من الأحيان كما يحدث من قبل منظري طبقة رأس المال التعتيم عليه. يمثل هذا تقدمًا كبيرًا في الطريقة التي ينظر بها للتاريخ، فالتاريخ لا يتحرك إلى الأمام بفضل عبقرية فرد، ومن خلال فصله عن العلاقات الاجتماعية أي البناء الفوقي للمجتمع، ومن خلال فصله عن البناء التحتي الاقتصادي للمجتمع. فالماركسية حولت هذه الفكرة رأسا على عقب وجلبت الطبقة العاملة إلى ساحة التاريخ، فوفقًا للمفهوم الماركسي – المادية التاريخية –التاريخ يتحرك إلى الأمام ليس من خلال أفعال الأفراد ولكن من خلال الصراع الطبقي. المفهوم المادي للتاريخ يقول بأن الناس يدخلون ضمن سياق الانتاج الذي يقومون به في علاقات محددة ومنفصلة عن رغباتهم تتطابق مع مرحلة بعينها من مراحل تطور قوى الانتاج المادية ومن مجموع علاقات الانتاج هذه يتكون التركيب الاقتصادي للمجتمع، الأساس الراسخ الذي يقوم عليه البناء القانوني والسياسي والثقافي والأخلاقي للمجتمع والذي تترافق معه أنماط محددة من الوعي الاجتماعي ويؤثر شكل الانتاج في مجمل العمليات الاجتماعية والسياسية والروحية. فليس وعي الناس هو الذي يقرر شكل وجودهم وطبيعته، انما وجودهم الاجتماعي هو الذي يقرر ويحدد أشكال وعيهم ومستوياته. فالظروف الاجتماعية المتماثلة التي تحيط بمجموعة من الأفراد وبالمجتمع تسهم في ايجاد مشاعر وأفكار وسياسات متماثلة فيما بينهم وفي المجتمع. ويشير ماركس في فلسفة نقد القانون عند هيغل إلى انه ما ان تؤمن الجماهير بالنظرية وهي نتاج الوعي حتى تصبح قوة مادية توجه سلوكهم وممارساتهم. وأيا كان سير التاريخ فإن الناس يصنعونه على النحو التالي: "كل فرد يقصد اهدافه الموضوعية عن وعي وإدراك، اما النتيجة العامة لهذه الكثرة من المساعي التي تعمل في اتجاهات مختلفة، وتأثيراتها المتنوعة في العالم الخارجي فهي التاريخ بالضبط". انجلز (لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية (صفحة 49) – ماركس انجلز مختارات. وعلى الرغم من التحليلات الواسعة لدور الأفكار والنظريات في عملية التغيير، فإن ذلك لا يعتمد على استقلالها انما ينطلق من ارتباطها بالشروط الموضوعية المعطاة أي بشروط الواقع، ففعالية الأفكار لا تخرج عن طبيعة الشروط التي ولدتها إنّما تخضع لها تمام الخضوع. وما ينطبق في التحليل المادي التاريخي على مفهوم الوعي الاجتماعي يندرج بدوره على دراسة الشخصية، فالإنسان دائما ابن زمانه ومجتمعه وطبقته. فيتحدّد جوهر الشخصية ويتضح تمام الوضوح بالمجتمع الذي تعيش فيه، ولما كانت مراحل التطور تتمايز فيما بينها بالشروط الاقتصادية والاجتماعية السائدة فيها فمن الطبيعي أن تكون هناك أشكال متباينة للشخصية وليس شكلا واحدا ففي مرحلة المشاعية البدائية لم يكن الانسان بحسب تعبير ماركس قد انفصل عن الطبيعة ولم يكن يعي ذاته الا عضوا في جماعة معينة، وكان ذلك مرتبطا بتخلف قوى الانتاج وبدائيتها. ولكن مع تقدم قوى الانتاج وفي شروط التقسيم الاجتماعي للعمل والملكية الخاصة لوسائل الانتاج برز التباعد بين المصالح الشخصية وظهرت اشكال الصراع الطبقي وبدأ الناس يدركون أنفسهم شخصيات فنشأت الشخصية الطبقية بما يتوافق وطبيعة تلك المرحلة. وبهذا النمط تأخذ المادية التاريخية بدراسة مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي من مرحلة المشاعية البدائية التي لم تعرف فيها البشرية أي شكل من اشكال التملك، إلى مرحلة العبودية التي انتشرت فيها مظاهر تملك البشر بعضهم لبعض، ومرحلة الاقطاعية التي سادت فيها ملكية الأرض مع تقدم نسبي في حرية الانسان بالمقارنة مع المرحلة السابقة ونتيجة تطور قوى الانتاج الامر الذي استوجب ظهور علاقات انتاجية جديدة. واخيرا مرحلة التطور الرأسمالي التي انتشرت فيها أشكال جديدة من التملك لوسائل الانتاج مع تطور أكبر في مجالات العلم والتكنولوجيا وتبشر المادية التاريخية بالمرحلة الشيوعية التي تعد آخر مرحلة من مراحل تطور البشرية التي تحمل في ثناياها مظاهر الصراع والتناقض لتصبح بعد ذلك خالية من أي تناقض داخلي. وفي النهاية لقد نشأت الفلسفة الماركسية كسلاح فكري للطبقة العاملة في نضالها ضد طبقة رأس المال ضد البرجوازية وتوافق الدفاع الثابت عن مصالح الطبقة العاملة مع الموضوعية العلمية للفلسفة الماركسية هو الخاصية الأهم لحزبية الفلسفة الماركسية اللينينية. مراجع أصول الفلسفة الماركسية – جورج بوليتزر. مدخل إلى المادية الجدلية – موريس كورنفورت. فريدريك انجلز – أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة. عن الاتحاد 18/3/2022 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |