|
ما أعطاه وحده فلسفياً يكاد يُعجز جيلاً كاملاً بل إنسانية بكاملها - د. ادمون ملحم
العقل هو ميزة الإنسان، هذا المخلوق الفريد، المعجزة الفذة، الذي، بما يمتلك من ملكات عقلية، يعيش في الحاضر والماضي والمستقبل في آن واحد ويتخطّى كل الأشياء والعلاقات والتيارات، لا يقيّده مكان ولا زمان.
والعقل هو منتج الأفكار والفلسفات والشرائع والعلوم وكل ما ابتدعه الإنسان العاقل – الفنان، من فنون وعلوم وتكنولوجيا وما حققه من إنجازات واكتشافات ومآثر وانتصارات وحضارة. فبالعقل ذلّلَ الإنسان الصعاب وبدّد الظلمات ونشر المعارف واخترق طبقات الأرض وحلّق في السماء صاعداً إلى النجوم وأخضع الأشياء لسلطانه وجعل من نفسه سيد المخلوقات. العقل، باختصار، هو التفسير الكبير والصحيح لوجود الإنسان. فهو، كما يقول سعاده: «الشرع الأعلى والشرع الأساسي. هو موهبة الإنسان العليا. هو التمييز في الحياة..»1. وقيمة حياة الإنسان ليست بالعيش ولا بالحياة ذاتها، لأن الإنسان لا يحيا حياته بلا معنى، بل بما يصحبها من وعي وإرادة وقدرة فائقة على التمييز والتغيير وعدم الاستسلام للواقع وبما تحقق له هذه القدرة من التحكم في نفسه وفي بيئته وفي القوى التي تحيط به وبما تدفعه إرادته لتحقيق مطالبه في الحياة ليحيا بعزّ وكرامة وحرية وإبداع. فإذا «تلاشت ميزة الإنسان الأساسية»2 وعطلنا الفكر والعقل، يقول سعاده: «عطلنا الإرادة، عطلنا التمييز وأنزلنا قيمة الإنسان إلى قيمة الحيوان».3 والأمم هي عقول أبنائها وأفكارهم المتجلّية في الحياة الاجتماعية. هي إرادتهم الخيّرة لتحقيق مطالبهم العليا ونيل مبتغاهم في الحياة. فالأفكار هي ثروة الأمم وهي التي تقود الشعوب نحو التقدّم والفلاح وتدفعها للتآلف والعيش بسلام او للانتفاض والثورة على المظالم والقهر والاستبداد. فالفكر هو ثروة لا يمكن تقديرها بثمن وهو قوة الأمة الحقيقية التي تقرر مصير الشعب وفلاحه. يعتبر سعاده «أن قيمة عقل الإنسان تظهر في مقدار تفكيره ونوعه..»4؛ ومنذ بدء التاريخ القديم، كانت الفلسفة تعبيراً عن وجود الإنسان وعقله الواعي، بما اشتملت عليه من ثقافة ومجهود عقلي وتطلّع إلى العلم ومعرفة الوجود، وكانت أساساً للعلوم والتقدم العلمي ولبروز الثورات الاجتماعية والسياسية والدينية.. وكان الفلاسفة رواد التفكير وطليعة التأمل الفلسفي والحركات الفكرية والثورات العقلية. وتاريخ الفكر الإنساني يقدم لنا أمثلة عديدة عن فلاسفة مبدعين وعن شهداء سقطوا صرعى الفلسفة وقدموا حياتهم فداء لها. فسقراط وأفلاطون والإمبراطور الفيلسوف مرقص أوريليوس وبرونو وفولتير وغيرهم.. تلقوا الأذى في سبيل أفكارهم، فصبروا وثابروا حتى استشهد بعضهم على مذبح الفكر.5 ولأن العقل ينشد الحقيقة ولا يطمئن حتى يجدها، «كانت الفلسفة يوماً ما يُخيف اسمها البابوات وأصحاب العروش فألقوا المؤمنين بها في غياهب السجون وزجّوا بهم في المعتقلات»6، يريدون إطفاء نور الفكر الذي تنخلع له قلوبهم. فالإنسان – المعلم – الفيلسوف لا يستسلم لواقعه لأنه يثير في نفسه مشاكل لا تهدأ إلا بإعادة تنظيمه من جديد. لذلك فهو في حالة قلق دائم تلاحقه الأسئلة حول الأغراض والغايات، حول معنى الوجود ومآله، حول الحياة وغايتها، حول الاجتماع الإنساني وأهدافه، حول سعادة الإنسان وشقائه، حول الخير والشر، حول الأخلاق والمثل والقيم، الخ… أسئلة عديدة تؤرق حياته ويحاول الإجابة عليها.. يتطلع دائماً إلى الآفاق البعيدة ويسمو إلى عالم آخر مفارق لواقعه، هو «عالم عقلي»، لا يدركه البصر إنما تدركه البصيرة. هذا العالم المليء بالمثل والمعاني والأفكار والتصورات، هو شغله الشاغل، يجول فيه ويحاول أن يضع تصوراً لمدينة فاضلة ولمجتمع أمثل و»أن يخطّط تاريخاً جديداً لأمّته ويضع قواعد عصر جديد لشعبه».7 هذا النشاط الفكري هو شأن فلسفي. إنه استجابة وموقف فكري معين من الحياة وتجاربها وقضاياها الكبرى التي تشغل بال الإنسان. وأنطون سعاده كان واحداً من الذين شغلتهم الأسئلة عن الوجود الإنساني ومثله العليا وعن معنى الحياة وهدفها، رافضاً أن يمضي حياته في همّ وشجن سائراً مع القطعان البشرية ومستسلماً لواقع أمته المغلوبة على أمرها. استيقظ وجدانه وتألق عقله وطرح أسئلة لها علاقة بالتفكير الفلسفي وأهدافه. ومن هذه الأسئلة: هل نحن أمة حية؟ هل نحن مجتمع له هدف في الحياة؟ هل نحن قوم لهم مثل عليا؟ هل نحن أمة لها إرادة واحدة؟ هل نحن جماعة تعرف أهمية الأعمال النظامية؟». وجالَ سعاده في العالم العقلي الزاهي بالمثل والأفكار والمعاني وتفحّصَ ما فيه من آراء وعقائد ومذاهب وفلسفات.. وفي انفلاته من الزمان والمكان، لم يكن قصده المتعة العقلية أو الترف الفكري، بل كان همه البحث عن حقيقتنا القومية و»اكتشاف الوسيلة الفعالة لإزالة أسباب الويل»8 و»تخطيط حياة جديدة ورسم مثل عليا بديعة لأمة بأسرها».9 كان متفائلاً بالحياة، يقارع مصاعبها ولا يلوي على شيء. وكان سعاده مؤمناً أنه بالتفكير الراقي والتخطيط السليم والاجتهاد وبتثقيف العقول وتنويرها بالمعرفة وتغذيتها بالثقة والفضائل والأخلاق، بإمكاننا محاربة الشرور والآفات وإيجاد الحلول للمشاكل والمعضلات وتغيير الواقع وإصلاح الحياة والمجتمع. ونتيجة تنقيبه وأبحاثه العلمية، توَصَّلَ إلى الحقيقة الضائعة وإلى صياغة نظام بديع من الأفكار والمعاني المكوّنة لفلسفة، عميقة، معبّرة عن آمال أمته وأحلام بني قومه.. جاء «بنظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة تجسّم لنا مثلنا العليا وتسمو بها وتصوّر لنا أمانينا في فكرة فلسفية شاملة تتناول مجتمعنا كله وقضاياه الكبرى المادية ــــ الروحية من اجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية وفنية».10 وغاية هذه النظرة الجديدة، أو هذه الفلسفة، المتصلة بذاتنا، هي تحسين الحياة القومية والإنسانية وجعلها «أرقى وأفضل وأجمل».11 جالَ سعاده في واقع أمته المجزأة إلى دويلات صغيرة والمفسّخة روحياً ومادياً نتيجة استفحال الرجعية الاجتماعية والسياسية البغيضة وفساد تفكيرها الانحطاطي وخططها الاعتباطية وأساليبها العقيمة وعقليتها الاتكالية وتخبطها في قضايا الحزبيات الدينية والمصالح الخصوصية والسياسية العشائرية والعائلية، فلم يرَ أملاً في الثبات في معترك تنازع الأمم والتفوق في الحياة إلا بمشعل النهضة الذي يبدّد الظلام ويرشدنا إلى الأسس التي تعيّن الاتجاه والغاية، والتي تخرجنا «من التخبط والبلبلة والتفسخ الروحيّ بين مختلف العقائد إلى عقيدة جلية صحيحة واضحة نشعر أنها تعبّر عن جوهر نفسيتنا وشخصيّتنا القومية الاجتماعية. إلى نظرة جلية، قوية، إلى الحياة والعالم»12.. تجمعنا حول قضية «فيها كل الخير وكل الحق وكل الجمال وكل الحقيقة وكل العدل للمجتمع الإنساني».13 وبفضل تفكيره العقلاني الراقي، استطاع سعاده ان يعطي ما أعجز عصراً بأكمله وربما إنسانية بأسرها من إعطائه. أعطى فلسفة مدرحية كاملة جوهرها: «التفاعل الموحد الجامع القوى الإنسانية».14 هذه الفلسفة تستلهم التاريخ القومي وتنشد الخروج من هذا الحاضر المرير لتبني مستقبلاً جميلاً للأمة وللعالم، لأن غايتها الأخيرة هي الوصول إلى حياة أجود في عالم إنساني أجمل تسوده أجمل وأسمى القيم. في كل ما أعطاه سعاده، لم يكن همّه في أي وقت من الأوقات منفعة شخصية، فهو تنازل عن كل المناصب والمنافع المادية التي كان بإمكانه أن ينالها. سعاده نذر حياته من أجل قضية كلية. كان يصارع في سبيل مبدأ أو هدف بعيد وكان يحدوه أمل بأنه إذا تحقق الوعي القومي سيجلب لأمته ولأجيالها وللإنسانية جمعاء الخير والسعادة والمجد والفلاح. 1 – أنطون سعاده، المحاضرات العشر، طبعة 1976، ص 127. 2 – المرجع ذاته. 3 – المرجع ذاته، ص 156-157. 4 – أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932-1936، بيروت 1976، ص 13. 5 – د. محمد عبد الرحمن مرحَبا، مع الفلسفة اليونانية، منشورات عويدات، بيروت- باريس، الطبعة الثالثة، 1988، ص 8. 6 – المرجع ذاته. 7 – سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، تجديد الأدب وتجديد الحياة، بيروت، 1960، ص 31. 8 – أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 43. 9 – سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 30. 10 – سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 45. 11 – أنطون سعاده، المحاضرات العشر، طبعة 1976، ص 173. 12 – المرجع ذاته، ص 15. 13 – المرجع ذاته، ص 21. 14 – رسالة من الزعيم إلى القوميين الاجتماعيين، 10/01/1947، منشورة في نشرة عمدة الإذاعة بيروت، المجلد العدد 1، 30/6/1947 عن جريدة البناء 3/7/2020 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |