أربعون عاما على رحيل فؤاد نصار - نعيم الأشهب


كان يمثل، بعناد لا يلين، الاستمرارية التي لا تعرف التردد في المعركة، مهما كانت الصعاب يصادف الثلاثون من أيلول الجاري ذكرى رحيل القائد الوطني والأممي الكبير، فؤاد نصار. ومنذ رحيله جرى التعرض للعديد من خصاله كقائد متميز، مارس العمل الكفاحي المسلح والسياسي والنقابي، بشجاعة نادرة، ولقدراته على اتخاذ القرار في أصعب وأعقد القضايا، ولصفاته في التواضع والزهد والتضحية، في سبيل الوطن والشعب، هذه الصفات التي نفتقر الى الكثير منها هذه الأيام. لكن يبدو أن ما كتب عن أبي خالد، حتى ا?ن، لم يأت على واحدة من أبرز، إن لم تكن أبرز خصاله الثورية وأشدها تعبيرا عن روح التضحية التي كان يتحلّى بها في سبيل قضية الشعب والوطن، وهو اختياره، عن وعي كامل، لأشد ساحات معركة الشعب الفلسطيني، خلال النكبة وبعدها، صعوبة ووعورة للعمل والنضال.

من المعروف أن معظم قادة عصبة التحرر الوطني، وبخاصة من الصف الأول، أمثال إميل توما وتوفيق طوبي وإميل حبيبي، واصلوا البقاء في المناطق التي أصبحت إسرائيلية؛ وذلك في إطار السعي للبقاء في أرض الوطن وفي مجال التصدي لمشروع التطهير العرقي الصهيوني. وكان فؤاد، ابن الناصرة، أولى من البعض للبقاء هناك. لكنه أدرك أهمية وضرورة الوجود في بقية الأرض الفلسطينية التي وقعت تحت سيطرة النظامين الأردني والمصري. وإذا كانت الشيوعية أو أكثر تحديدا، الفكر الماركسي، سلاح الطبقة العاملة الأيديولوجي، حالة موضوعية في المجتمات المعاصرة، تفرض نفسها وتظهر، إن عاجلا أو آجلا، فإن اختيار فؤاد نصار للبقاء في المنطقة التي أصبحت تدعى بالضفة الغربية، شكل عاملا حاسما في استمرار الوجود والنشاط الشيوعي في الضفة الغربية وقطاع غزة، ودون توقف؛ بينما توقف واختفى نشاط ووجود بقية التنظيمات والأحزاب الفلسطينية الأخرى، بالرغم من أن حربة الارهاب والمطاردة، في المنطقتين - الضفة والقطاع - كانت موجهة ضد الشيوعيين دون سواهم، ?دراكهم طبيعة المؤامرة على الشعب الفلسطيني وفضحهم لدور النظام الرجعي العربي فيها.

وفي إطار الحرص على تأمين مقومات هذا النشاط واستمراره، حرص أبو خالد، منذ البدء، على نقل مطبعة الحزب، التي كانت تطبع صحيفة ا?تحاد، من يافا الى بيت لحم، ووضعها في قبو بيت الشيوعي المخضرم عبد الله البندك، ومن بعد ذلك الى بيت سري في بيت جالا، قبل أن تستقر في عمان، عقب تشكل الحزب الشيوعي الأردني في أيار 1951. وعلى هذه المطبعة جرت طباعة المنشور الأول للعصبة في حزيران 1948، الذي يفضح طبيعة المؤامرة على الشعب الفلسطيني ودور الرجعية العربية فيها، ودور جيوشها، التي دخلت أراضي فلسطين، لا لتحريرها، وإنما لمنع الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، ولو بموجب قرار التقسيم؛ هذا المنشور الذي جرى توزيعه، حينها، توزيعا ثوريا، بما في ذلك، في بعض خنادق الجيش المصري، في ظروف مطاردة وحشية. وبينما عمل أبو خالد على هذا المسار، فقد قام، في الوقت ذاته، برحلته الجريئة، تسللا، الى غزة، حيث كان يعتزم، بالتعاون مع مؤسسات موالية هناك، اعلان الدولة الفلسطينية الديمقراطية المستقلة، وفقا لقرار التقسيم، كمحاولة اعتراضية على مسار المؤامرة التي تتوجت بالنكبة. لكن محاولته هذه أجهضها دخول الجيش المصري الى القطاع، منذ الخامس عشر من أيار 1948، ومباشرته على الفور حلّ تلك المؤسسات الديمقراطية وتعيين بدائل لها من اتباعه، يدا بيد مع مباشرة عملية مطاردة شرسة للشيوعيين وعلى رأسهم أبو خالد بالذات.

وفي كانون الأول 1948، انعقد في أراضي سلفيت اجتماع، بمشاركة الرفاق فؤاد نصار وفهمي السلفيتي ورشدي شاهين، كنواة قيادية لفرع عصبة التحرر الوطني في الضفة والقطاع، وانضم الى هذه النواة القيادية، ولأول مرة الرفيق فائق وراد. وفي هذا الاجتماع تقرر إصدار صحيفة الحزب السرية: "المقاومة الشعبية"، اعتبارا من الأول من كانون ثاني 1949، في ظروف من المطاردة الشرسة للشيوعيين، وبخاصة فؤاد، وأخطار تصفيته جسديا، مما استلزم حمايته المسلحة، التي تولاها حينها، الرفيق الشاعر الشعبي المعروف، راجح السلفيتي. ولم يكن من النادر،آنذاك، أن ينام أبو خالد في الكهوف والمغاور، بصحبة فقر مدقع. لكنه التحدي الثوري الذي لا يعرف المستحيل. وقد بقيت "المقاومة الشعبية" صحيفة العصبة في الضفة والقطاع، يجري تهريب أعداد منها، حين تسمح الظروف التي كانت في منتهى الصعوبة والتعقيد الى الرفاق في قطاع غزة، حتى أيار 1951، لدى قيام الحزب الشيوعي الأردني، والذي ما كان لفرع العصبة في قطاع غزة أن يكون جزءا منه. كان فهمي السلفيتي هو القائد الثاني للحزب بعد فؤاد نصار. وقد قاد الحزب لسنوات عديدة، خلال غياب فؤاد في السجن ثم في الخارج، بسبب المطاردة البوليسية الشرسة.

قاد فهمي، بكفاءة عالية، معركة حلف بغداد المظفرة، خريف 1955، ومع ذلك، فإنه بعد خروجه من السجن، أواخر العام 1950، حيث فرضت عليه ا?قامة الجبرية، وراح يداوم في حانوت والده في القدس، تردد، في البدء، في الاستجابة لطلب فؤاد بالعودة الى الاختفاء، لمواصلة العمل الحزبي، في ظروف ا?رهاب المتصاعد وانغلاق الأفق السياسي في البلاد، آنذاك. وتردده شعور انساني يمكن فهمه. لكن فؤاد كان يمثل، بعناد لا يلين، الاستمرارية التي لا تعرف التردد في المعركة، مهما كانت الصعاب، واليه شخصيا يعود الفضل في عدم توقف نشاط الشيوعيين يوما، بخاصة في الفترة العصيبة التي رافقت النكبة وأعقبتها مباشرة. هذا هو فؤاد نصار الذي ننحني ، اليوم، إجلالا أمام ذكراه الملهمة.

عن موقع الجبهة
2/10/2016







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com