![]() |
|
كيف سأقف أمام ضريح عبد الرحيم محمود؟ - رياض مصاروة
يحق لنا أن نرتاح لبعض الوقت من أزيز الأخبار المليئة بالدم والحبلى أيضا بنبوءات لا تبشر بالخير ونتمعن في تاريخ ثقافي وحضاري نفخر به مثلما تفخر كل الشعوب المتحضرة بأعلامها المتفردين الذين رووا تاريخ البشرية بجمالية البؤس والحرية والتحرير.
طويلة هي قائمة الأعلام وقائمة المبدعين الثوريين في تاريخ الشعب الفلسطيني الذين حملوا أرواحهم على راحتهم وحملوا دمهم على أكفهم. سأذكر البعض من هذه القائمة الطويلة: غسان كنفاني، ماجد أبو شرار، كمال عدوان، توفيق زياد، محمود درويش وطويل العمر سميح القاسم، مطلق عبد الخالق، معين بسيسو، راشد حسين،سالم جبران، اميل حبيبي، عبد الكريم الكرمي ( أبوسلمى) وعبد الرحيم محمود وغيرهم. وكلهم شهداء الثقافة الفلسطينية، مع اختلاف شكل استشهادهم. منهم من استشهد اغتيالا (غسان كنفاني وكمال عدوان) ومنهم من قضى نحبه حبا لفلسطين في ظروف كفاحية ونضالية قاسية، ومنهم من استشرى به المرض وقاومه واستغنى عن الرفاهية والإغراءات. يهمني في مقالتي هذه أن أتطرق الى الشهيد عبد الرحيم محمود، الشاعر المقاتل، الذي سقط في معركة الشجرة 13/7/1948 وبيده البندقية التي توجت أعماله الشعرية وتوجت حبه لفلسطين. وعندما أذكر عبد الرحيم محمود أتذكر شعراء عالميين ربطوا الكلمة بالفعل أمثال ايلوار الفرنسي الشاعر الذي اشترك في الحرب العالمية الثانية ضد الوحش النازي، وأتذكر الشاعر الاسباني لوركا الذي اغتيل 1936 على أيدي سفاحي فرانكو لأنه وقف مع الفقراء ووقف ضد الفاشية. وكم نحن بحاجة اليوم إلى روحهم المبدعة والمقاتلة في الوقت نفسه، وكم بحاجة نحن اليوم الى التوقف والتمعن في سلوكياتهم الثورية والإنسانية وأن نطرح الكثير من الأسئلة على أنفسنا وعلى دواخلنا ونفحص سلوكياتنا من جديد، نحن الذين نعيش في عصر التكنولوجيا والمعلوماتية وعصر الانترنت الذي يروج الكثير من التوافه "الثورية" والكثير من الفردانية القاتلة والركض وراء اكتساب الشهرة العابرة ووراء اغتصابها اغتصابا قبيحا يشبه اغتصاب نكاح الجهاد، وأحيانا نتحلى بآفة التكفير الأدبي والثقافي. لم يتطلع عبد الرحيم محمود وأقرانه إلى الشهرة، ولم يركضوا نحو تخليد أنفسهم، ولم يكن لديهم الوقت للأنانية القاتلة ولا الوقت لاعتلاء المنصات،وكتابة أخبارهم اليومية عن انجازاتهم. كان همهم قضيتهم وقضية شعبهم، كانوا الشعلة التي حاولت أن تنير الطريق المظلم.لم يطلبوا ولن يطلبوا أن ينعتوا بـ: الشاعر الكبير أو الكاتب الكبير، لأن هناك قضية أكبر منهم. للناصرة قدسيتها الدينية وللناصرة قدسيتها النضالية والثقافية. في الناصرة عاش المسيح وبشر بميلاده وفي الناصرة يرقد عبد الرحيم محمود إلى جانب توفيق زياد، والاثنان يعطران هذه القدسية ويزيدانها زخما وشكلا ومضمونا، هناك من يحج الى كنيسة البشارة وهناك من يحج إلى التراب الذي يواري هذين الشاعرين المناضلين اللذين ربطا الكلمة بالفعل وأعطيا نكهة خاصة نعطر بها نضالنا الآني.وأنا شخصيا أحسد من يجاورهما في تلك التربة النصراوية، أحسد عبلة وعفاف،أحسد ليلى العابد وأحسد الأطفال الذين لا أعرف أسماءهم، تمنيت لو بقيت بقعة في هذه التربة لجثماني. ها هي العاطفة تتملكني وعليّ أن أهجرها وأنظر وأتمعن في "سلوكياتي النضالية" وأطرح على نفسي الكثير من الأسئلة الآن وعندما أتوحد مع الآخرين يوم السبت 13/7/2013 مع الشاعر عبد الرحيم محمود. لم أحمل بندقية ولن أحملها في يوم من الأيام ولن أسقط شهيدا وهذا ليس شرطا نضاليا في ظروف الرفاهية التي نعيشها، ولكن يتوجب علي أن أسأل: هل قدمت ما فيه الكفاية لوطن وقاني من السقوط في هاوية العجز ومن السقوط في هاوية الابتذال والخيانة؟ ألا يستحق هذا الوطن أن أتخلى بعض الشيء عن أنانيتي وفردانيتي وأن أتحلى بقسط من التواضع لئلا يضيع مني هذا الوطن؟ كيف ولماذا تخلى أبو الطيب،عبد الرحيم محمود عن كل الرفاهية الحياتية وحمل روحه على كفه؟ اذا لم أطرح على نفسي هذه الأسئلة يوم السبت 13/7/2013 فلا حاجة إلى هذا التوحد ولا حاجة للحج إلى التراب الذي يواريه.علي أن أقف إلى جانب ضريحه نظيفا وإلا ستكون زيارتي له نوعا من التملق النضالي ونوعا من الحنين الفارغ من المضمون. جَلد الذات ضروري أحيانا للخروج من أمراض تفشت في نفوسنا وفي سلوكياتنا وقتلت الروح المبدع فينا حين تقوقعنا في أنانيتنا وحسبنا أنفسنا أننا فوق النزاهة الثورية ومفعولها. لا أحد يطلب منا حمل بندقية مثلما حملها عبد الرحيم محمود والسؤال المطروح: ماذا يجب أن نحمل ليس على كتفنا إنما في داخلنا؟ وأنا شخصيا أستطيع أن أجيب عن نفسي فقط: المطلوب مني هو الصدق الثوري والصدق الإبداعي: أن أكتب لأنني أحمل القضية في داخلي ولا أطلب من القضية أن تجازيني وأن تميزني لأنني مبدع. فلندع التاريخ يقيمنا ويجازينا مثلما فعل عبد الرحيم محمود وأقرانه ومثلما فعل من تعلموا في مدرسته النضالية، والذين وجدوا المتعة الحقيقية حين تألموا من أجل شعبهم وقضيتهم. لا نضال بدون متعة ولا ألم بدون جمالية ثورية.فاستشهاد عبد الرحيم محمود مغلَّف بجمالية خارقة: شعر وبندقية،شعر وقضية،شعر وموت من أجل القضية،وأسوأ موت هو الموت المجاني الذي تحدث عنه الشهيد غسان كنفاني في روايته "رجال في الشمس" ولم يمت عبد الرحيم محمود مجانا وفقط خيالنا المجنَّح يستطيع أن يصف متعته حين لفظ أنفاسه الأخيرة (وصف تلك اللحظات لمشروع كتابي تخييلي)، وأنا سأقف أمام ضريحه وأنا أجلد ذاتي خجلا لأنني لم أقدم ما فيه الكفاية لهذا الوطن وأهله. لقد أمضى عبد الرحيم محمود حياته القصيرة (35 عاما) وهو يغني وينشد للحرية ويتغنَّى بها وكان قلقا على الوطن وعلى أهله ، ويكفي أن نتذكر كلماته التي ما زالت تصلح لأيامنا العصيبة هذه: نحن لم نحمل المشاعل للحرق ولكن للهدي والتنوير نحن لم نحمل السيوف لهدر بل لإحقاق ضائع مهدور أمتي ان تجر عليك الزعامات فلا تيأسي ذريها وسيري رتلي سورة السلام على الأرض وغني أنشودة التحرير. * ملاحظة: أجد جمالية في اسمه الثاني: أبو الطيب، وأنا أضيف: انه أبو الطيبة الثورية الخالصة، وفي الثورية الحقيقية طيبة. توفيق زياد جاره وتلميذه كان طيبا وكل المبدعين الثوريين هم أهل الطيبة. هل أنا رومانسي؟ فليعرف من لا يعرف: الرومانسية الحقيقية في صلب الثورية ولا ثورة حقيقية بدون رومانسية، بدون ممارسة الحب وبدون النضال من أجل الحب. فأنا أحب زوجتي وأحب وطني، أنا أحب أولادي وأحب وطني، ولا تخلو الرومانسية من الجدلية التي تبناها عبد الرحيم محمود. 12/07/2013 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |