عودة الى أدب وفن

الشاعر هارون هاشم رشيد ....قلبٌ عازفٌ على ناي العودة - محمد توكلنا


في حارة الزيتون , في مدينة غزة هاشم التي عوّدتنا على العطاء والوفاء ولد هارون هاشم رشيد , وكان ذلك في عام ألف وتسعمائة وسبعة وعشرين , ولد ليفتح عينيه على إرهاصات سقوط فلسطين , وليعاني في مقتبل عمره الآلام التي سببها الاحتلال البريطاني للفلسطينيين , وهو يهيّئ لإيقاع فلسطين في قبضة شراذم الصهاينة شذّاذ الآفاق , ويساعد على الاستيلاء على الأرض وطرد أهلها منها , ويضيّق على الفلسطينيين ما استطاع ليهجروا أرضهم ويضيعوا في الشتات .

هذه الظروف المغرِقة في القسوة صادفت قلب شاعر , إنه قلب هذا الصغير الذي لم تمرّ الأزمات عليه مرورًا عاديًّا , بل صقلته وألهبت فيه بركان ثورة ضدّ الاحتلال , حتى إذا شبَّ ذلك القلب ونضجت فيه قريحة الشعر أخذ يصوغ آلامه وآلام شعبه أناشيد حزينة كأنه عندليب جريح .

لقد راح الشاعر يصف اعتداءات قوّات الاحتلال على أصحاب الأرض وإرهابها لهم , ومن ذلك حادثة جرت مع الشاعر بالذات وهو يسير مع أصدقائه حين صادفوا بعض الجنود المحتلين الذين خوّفوهم فأداروا وجوههم إلى الجدار وصوّبوا بنادقهم إليهم , حتى إذا ظنّوا أنّهم سيقتلونهم تركوهم يمضون في سبيلهم :

ارفع يديك ..
وصوّبوا ظلمًا بنادقهم إليّ
ارفع يديك ..
وكاد يا أقدارُ أن يغمى عليّ
ارفع يديك ..
وددتُ لو قطعوا يديّ

إنه يتمنى لو أنهم قطعوا يديه , ذلك أنه أهون من المذلة التي شعر بها حين أجبره المحتلون على رفعهما , ثم تبدأ الأفكار تجول في خاطر الشاعر , وهو واقف ينتظر المصير المجهول :

ووقفتُ في عينيّ نار
وانتظار ..
وشريطُ أحداث تمرُّ
وذكرياتٌ في اتّصال ..


وتبدأ الأسئلة بالتداعي يطرحها على نفسه , هل يضيع نضاله هو وبقية الثوّار ورباطهم وقتالهم , فيجد بعد ذلك اليهود يحتلون أرضه ويدنّسونها ؟
بلدي يدنّسه اليهود !
أهذه عقبى النضال ؟
عقبى المرابطةِ الطويلةِ
في الخنادق والتلال
بعد الخيام البالياتِ
وبعد أعوام طوال


ويرسم الشاعر لنا صورة مَهولة , فهو يحسّ وهو ينتظر لحظة الموت بِأن الدنيا اسودّت في عينيه , فبنادق المحتلّين المصوّبة نحوه هو ورفاقه تشعرهم باحتقار أولئك المعتدين لهم , فيتمنى لو أنّ هذه اللحظات تنقضي ولو بسقوط الجدار عليه وعلى صحبه , ولكنّ المعتدين تركوهم ومضوا مخلّفين الغيظ في قلوبهم :

واسودّتِ الدنيا وما زالت
يدايَ إلى الجدار
والمجرمون يصوّبون لنا
بنادق الاحتقار
وودِدتُ لو يهوي
على رأسي الجدار
وأنا وصحبي في انتظار
طلقاتِ نار .. تمضي بنا
طلقات نار .. !


وإذ بالجنود يدعونهم ويمضون في طريقهم ولكن هذا العدوان ترك أثره حتى في الجدار , فهو محدّق ببصره ينتظر أن يهبّ الثائرون كبركان يطلق النار ليثأروا من المعتدين :

ومشَوا وما زالَ الجدار
باقٍ يحدّقُ في انتظار
بركانَ نار .. ولهيب ثار
وتقع غزّة في أيدي المغتصبين , ويأتي العيد والشاعر وأهله وأصحابه في الشتات تحت الخيام يعيشون أسوأ الظروف , فيرفع صوته معاتبًا العيد محتجًّا عليه أن يرجع والحال هكذا :

يا عيد كيف رجعت كيف رجعت بالذكرى لنا ؟
بالبؤس بالأحزان ننشرها هناك وهاهنا
هذي الخيام على الأسى والبؤس ضمّت شعبنا
نطوي بها ليل الشقاء ونحتسي من حزننا


ويسأل العيد عمّا يراه بين اللاجئين , فهو لا يرى إلاّ الآلام والأحزان وذكريات , فهل يجدي مجيء العيد في هذه الظروف ؟ :

ماذا ترى يا عيد ؟ آلامًا تقصّرُ عمرَنا
ذكرى وأشباح وأوهام ترامى حولَنا
وتعود أنت لتنكأ الجرحَ الكئيب الموهنا
يا عيد عد من حيث جئت إلى هناك لغيرنا
واحمل إلى التاريخ والأيام قصةَ بؤسنا


إن الشاعر لا يرحب بالعيد ولا يرد أن يلقاه لا هو ولا بقية المشرّدين , وليس لهم استعداد للفرح بالعيد إلاّ حينما يعودون إلى بلادهم فيحرثونها ويزرعونها بأيديهم , وحينما يؤسسون قوةً يستطيعون بها الذّود عن حياضهم , ويحققون آمالهم الناصعة الطيبة ويبنون مجدهم بهمّتهم وبأيديهم فيما يرتضيه الحق :

يا عيد لن نلقاك لن نلقاك يومًا ها هنا
إن لم نعد بالفأس والمحراث نحرث أرضنا
إن لم نعد بالثأر , بالبركان نحمي عرضنا
إن لم تعد راياتنا خفّاقةً من فوقنا
إن لم تعد أحلامُنا بيضاءَ ناصعة السّنا
إن لم نعد للمجد نبني بالجماجم حقّنا


ويشير إلى ظاهرة مؤسفة في مدينته غزّة , إنها فقدان كثير من الأطفال لآبائهم , فالآباء يتعرضون للقتل , فيبقى الأطفال بلا معيل فيرفعون أصواتهم , يطلبون من الله العون والمدد :

يا منقذ البؤساء
يا ربّنا نحن بلا آباء
نضرب في مجاهل الشقاء
بحثًا عن الحنان والوفاء


ويروي الأطفال الذين فقدوا آباءهم قصّتهم كيف كانوا يستمتعون بحماية آبائهم ورعايتهم , فإذا بالمحتليّن يهاجمونهم تحت جنح الظلام وهم آمنون نائمون فيرتكبون المجازر ثم يتركونهم أشلاء ممزقة , دون أن يرحموا صغارهم الذين يبقون بلا معيل ولا حنان :

كانوا لنا آباءْ
كانوا لنا الطعام والغطاء
كانوا لنا الكساء
كانوا لنا العيون والضياء
***
وفجأة في ليلة ليلاء
اسودّتِ السماء
وعربدت عواصفٌ هوجاء
تقذف بالموت والفناء
دقّت عل أبوابنا البيضاء
فغادرتها كتلاً حمراء
مصبوغةً بالدم والأشلاء
ومنذها ونحن في بكاء

ولكن الشاعر على مرارة الأحداث وحلكة الظلام ووعورة الدرب , على يقين من العودة إلى دياره , وهو يحمل هذا اليقين بشرى إلى قومه اللاجئين النازحين إلى حتمية عودتهم مهما تجبّر أعداؤهم , ومهما تحصنوا ومهما اعتدوا :

يا أيها المشردون (اللاجئون) النازحونْ
الضاربون على الدروب الحائرون التائهون
الحاقدون على الطغاة الساخطون الناقمون
يا إخوتي وأحبتي ........ يا أيها المستضعفون
مهما تعالى الجائرون........وحصّن المتجبّرون
مهما مضَوا في أرضنا........يتبخترون ويعتدون

ويذهب الشاعر يفضح جرائمهم من سرقة المحاصيل والاستيلاء على البيوت والاعتداء على دور العبادة , لكن هؤلاء المجرمين لا يعلمون أنهم لا بدّ أن يهزموا :

يجنون سنبلَ قمحِنا........خلف الحدود ويحصدون
وكرومنا هم يسرقون........عنبَ الكروم ويعصرون
وبيوتنا يتمتّعون بها هناك ويسكنون
وعلى المساجد والكنائس يعتدون
ويلطّخون طهارة الأقداس.. ظلمًا يجرمون
لكنهم لا يعلمون ........أنّ الغداةَ سيهزمون


ثم يحمل البشرى إلى قلوب إخوانه المقاتلين الذين يستشهد منهم الأشاوس بأنهم سيجنون ثمار هذا النضال :

يا إخوتي تستبسلون........ وأشاوسًا تستشهدون
وعن الديار تدافعون........ وإلى العلا تتواثبون


إن هؤلاء المقاتلين الذين باعدتهم أرض الغربة سيتلاقون وسيتعانقون على روابي وطنهم , وهناك يتعبّدون ربّهم بحرية فيركعون ويسجدون على أرض الوطن , وستزغرد نساؤهم حين يجتمعون في ساحاتهم تحت رايات الوطن :

يا إخوتي وستلتقون مع الصباح ستلتقون
وعلى روابيكم وفي أحضانها تتعانقون
وعلى ثرى الوطن المقدس تركعون وتسجدون
وتقبّلون التربة السمراء في لهفٍ حنون
وهناك حين ترفرف الرايات سوف تزغردون

إن هؤلاء المقاتلين سيزحفون نحو بلادهم يحملون الرعب إلى أعدائهم رعب الموت وسيمسحون عار الاحتلال عن بلادهم , وهذه المآسي التي عانوها وهم يصارعون المحتلين سوف تغدو قصصًا للتندّر والسمر في ليالي الشتاء حول المواقد حين يروي المجاهدون قصص النضال لأبنائهم وحفدتهم , وفي ليالي الصيف على مساطب بيوتهم وعلى بيادر بساتينهم :

وهناك في ساحاتكم بعد الفراق ستجمعون
في ظلّ رايات الفداء ستثأرون وتُنصرون
في كل أرضٍ تزحفون........بالرعب يرعد بالمنون
وعن البلاد ستمسحون العار بالدم تمسحون
ستحدّثون صغاركم عن أمسكم وستضحكون
وعن الملاجئ سوف في أوطانكم تتفكهون
وعن القنابل والمدافع والأسى تتندّرون
حول المواقد إن دنا ليل الشتاء ستسهرون
وعلى المساطب في ليالي الصيف سوف تثرثرون
وعلى البيادر سوف في أحضانها تتسامرون

إنه يرنو إلى يوم العودة يوم العودة فيراه قريبًا جدًا فيتكلم عنه كأنه يكاد يتحقق أمام عينيه :
يا إخوتي طلع النهار وأقبل المستبشرون
إخوانكم من كل قطر أقبلوا يتوافدون
هم ينشدون وكل أبناء الجهاد يرددون
يا أرضنا يا موطن الأحرار إنّا عائدون

إن الشاعر عازف ماهر على أوتار العودة ينظر إلى دربها فيراه قصيرًا على طوله , فالعودة تتردد في نبض قلبه , وفي تلاحق أنفاسه , وفي حلمه ويقظته , فهو يجمع بين الحلم والحقيقة , بين الأمانيّ واليقين , إنه بحق شاعر العودة بامتياز .


بيت فلسطين للشعر








® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com