|
عامر حليحل - "جسّد دور طه الكاتب والإنسان، بكل ما يحمله من مواصفات"
*تاريخ العرض – 2.10.14؛ مكان العرض- الناصرة؛ تأليف وتمثيل – عامر حليحل؛ اخراج- يوسف ابو وردة* * تتحول القصة الفردية من قصة شخص واحد وتصبح بذلك نموذجا لكثير من الفلسطينيين الذين مروا تلك التجربة المرة. إنها حكاية الذاكرة الجماعية التي يجب ألا تمحى من وجدان الأجيال القديمة والحاضرة. وهي رسالة تقوم المسرحية ببثها ونشرها لجيل المستقبل لإحياء للذاكرة الجماعية وإنعاشها. اعلن بداية انني لست من هواة المونودراما، واني افضل المسرحيات المتعددة الشخوص، لأنها تساعد في تنويع الحركة المسرحية، وتساهم في تعدد الاصوات. وكنت قد ذكرت في مقال سابق ان العمل المونودرامي يحمّل القيمين مسؤولية المغامرة، ويفرض على كل من الممثل والمخرج استنباط وسائل وتقنيات فنية تغني النص وتنيره من جوانب مختلفة. فضلا عن ذلك يفرض على كاتب العمل أن يكون حذرا في رسمه وتخطيطه بحيث لا يصاب المشاهد بالملل. وبالرغم من أن هذه متطلبات تفرض ذاتها على كل القيمين في أي عمل مسرحي، إلا أني ارى ان الأمر فيما يخص المونودراما أكثر صعوبة وتعقيدا. وعليه يطرح السؤال إلى أي حد وفق القيمون على مسرحية طه في جذب المشاهد والتواصل معه؟ تتناول المسرحية سيرة حياة الأديب طه محمد علي منذ ولادته مرورا بجيل الشباب، حتى يصبح زوجا وأبا وأديبا يكتب الشعر والقصة، ويتحول من إنسان فلاح كان يعيش في قريته الصغيرة الوادعة صفورية حتى بات أديبا يعتلي المنصات الأدبية في البلاد والخارج، بفضل شخصيته العصامية ومثابرته على تعليم ذاته بذاته أصول اللغة العربية من أدب ونحو وصرف، إضافة على اطلاعه على الثقافات والآداب العالمية. تتوقف المسرحية عند محطات هامة في حياته، منهاحكاية ولادته وتسميته طه، ثم قصته مع ابنة عمه أميرة، ومساهمته في مرحلة لاحقة في تربية إخوته الصغار كونه الابن البكر، ثم هجرة العائلة إلى لبنان أيام النكبة مدة سنة والعودة إلى أرض الوطن، ومن ثم عمله في التجارة، وتحول دكانه الصغير إلى ملتقى الأدباء الصغار والكبار، حتى بات أديبا يشار إليه بالبنان. إن اختيار محطات معينة من سيرة إنسان أديب جاوز الثمانين، يحتاج إلى مهارة وحس مرهف بحيث يتم اختيار وانتقاء الأحداث التي تهم المشاهد، وتجذبه وتبرز تميز هذه الشخصية اللافتة ومركباتها. بالأحرى إن عملية رسم الشخصية وبنائها يتطلبان الوقوف عند النوادر والحكايات والأحداث التي تحمل في طياتها معنى مميزا ينير جوانب هامة من شأنها أن تساهم، مع بعضها البعض، في بلورة الصورة الخاصة لهذا الإنسان. فالجزء الأكبر منها يعتمد على وقائع حقيقية لا مجرد خيال، أو إيهام بالواقع، وتغدو المسرحية، في هذه الحالة، أشبه برواية السيرة الذاتية، لا مجرد مذكرات. *وفاء لشخص الأديب* الأديب طه محمد علي كاتب معروف للقاصي والداني ولقارئ أشعاره وقصصه بأنه حكاء على درجة عالية من الذكاء الفطري، فضلا عن حساسيته المرهفة وحنكته في صوغ النوادر القصصية في نثره وشعره. وهو ساخر لاذع خفيف الظل يأسرك بكتابته وحديثه على حد سواء. فكان على المؤلف أن ينتبه إلى هذه الخصلة المميزة في شخصيته. من هنا جاءت الافتتاحية التي يقول فيها الممثل (طه): "انا جيت عالدنيا غصبن عنها، ما كانت بدها اياني". فنعلم مباشرة ودون تأخير أنه جاء إلى الحياة بعد وفاة ثلاثة أشقاء حال ولادتهم، وكانوا ذكورا واسم اثنين منهم طه والثالث ميلاد. يسرد الممثل هذه الحكاية بطريقة جعلت المشاهد يبتسم ولا يحزن، رغم الجانب المأساوي في الحكاية، ويتابع الممثل في سرده وحواره بنفس الوفاء لشخص الأديب طه محمد علي. إن هذه الجملة الافتتاحية تعني الكثير، وهي ليست جملة حيادية أو اعتباطية، فهي تشير بوضوح أننا إزاء شخصية جاءت إلى الحياة لتعاركها، لا لتتقبلها كما هي على علاتها، ولا لتستسلم لشروطها وظروفها مهما كانت صعبة. إنها من النوع الذي يثير التساؤل لدى المشاهد ومن شأنها أن تساهم في فتح "الفجوات"، كما يقول منظرو الأدب، ومنهم وولف جانجايزر، وبالتالي تثير عنصر التشويق لدى المشاهد الذي سينتظر ما يثبت هذه "المعلومة". إن مثل هذا النوع من المسرح ومن الأعمال السينمائية يفرض علينا ان نتساءل إلى أي حد وفق القيمون، وبالذات الممثل في تجسيد دور الشخصية؟ إن المشاهد يتوقع أن يرى صورة الشخصية الأصلية، وأن يسمع صوتها. وهذا يتوقف على المجهود الذي يبذله الممثلون والمخرجون والتقنيون في المجالات المتعددة. وعلينا أن نعلن أن ذلك له أهمية كبرى، ولعل هذا كان أحد أسباب نجاح فيلم غاندي الشهير. لكن هناك ما هو أهم من ذلك بكثير وهو إحساس المشاهد أن هذه هي روح الشخصية وهذه هي مميزاتها وخصوصيتها، وأن هذه الأحداث وهذه الحكايات والنوادر تعكس صورة صادقة للشخصية الأصلية. لقد نجح الممثل عامر حليحل في تجسيد دور الأديب طه محمد علي، وعلينا هنا أن نميز ما بين التقليد والتجسيد، لأن التقليد ليس من وظيفة المسرحية أو الممثل، فهناك طه الطفل وطه الشاب وطه العجوز وطه الشاعر والقاص. ثم هل الصورة الخارجية للممثل هي طبق الأصل لصورة طه؟ هنا يجب علينا ان نذكر ان المسرحية بدأت بتعريف الذات حين أعلن السارد/ الممثل قائلا: "أنا طه محمد علي..." . مما يعني ان الممثل يتقمص شخصية طه في جيل الشيخوخة، ومن ثم أخذ يستعرض من خلال الفلاش باك والذكريات ماضي طه اعتمادا على التتابع الزمني دون اللجوء إلى "التشويهات الزمنية" كما يسميها تودوروف. فهل جسد الممثل حركات طه وصوته؟ لا أعتقد ان هذا هو المطلوب، إذ ليس من السهل "تقليد" الشخصية في الصوت والصورة بحيث تبدو صورة طبق الأصل، ولكن من المهم أن يحس المتلقي أن الشخصية التي أمامه هي شخصية صادقة وليست مزيفة. برأيي أن الممثل، بإشراف من المخرج، قد تمكن من إقناعي كمشاهد أن من يتحرك أمامي هو ظل طه، وهذا يكفي لأنه من المستحيل استحضار الشخصية لتبدو طبق الأصل. لقد اقتنعت أن هذا هو طه من خلال الأحداث نفسها، فظهر أمامي طه الساخر والحساس والمثقف والكادح والعامل، وطه المحدث اللبق، وطه العنيد الذي تمكن أن يحقق كل ما كان يصبو إلى تحقيقه على الصعيد الأدبي بالذات. *تقنيات تتلاءم مع الشخصية * قلنا إن على القيمين في مثل هذا النوع من العمل المسرحي أن يوفروا التقنيات والوسائل الفنية للحفاظ على شد المشاهد، ولكن الحقيقة ان الوسائل التي تم توظيفها في العمل كانت وسائل في غاية البساطة. لقد اقتصر الديكور على طاولة ومحفظة، فتم التعويض عنه بالإضاءة، وبالتحديد من خلال انعكاس ظل الممثل الوحيد على الجدار. وهي تقنية ليست بحاجة إلى مجهود فني خاص أو إلى وسائل تكنولوجية حديثة، كما هو الحال في العمل المسرحي والسينمائي الحديث. أما الموسيقى فنكاد نعلن أنه لا توجد موسيقى ولا خلفية موسيقية أللهم إلا حين كان ينتقل السارد من مرحلة لأخرى، أو حين يتم إلقاء الأشعار، فكانت إشارة بسيطة للمتلقي أنه إزاء مرحلة جديدة في زمكانية الأحداث. مسرحية طه عمل مونودرامي خفيف الظل قادر على اجتذاب المشاهدين وشدهم للمتابعة وطلب المزيد. ولن يضير القيمين عليه أن يوظفوا عامل الموسيقى في بعض المشاهد، كمشهد موت الابنة/الاخت مثلا. هذه "التقنيات" تتلاءم مع بساطة الشخصية ومع عرض الأحداث.فالظل قد أتاح للممثل أن يتحاور مع الآخر، وأن يستحضر اكثر من شخصية، فأتاح المخرج المجال، بلمسة ذكية، لتعدد الأصوات، مما ساهم في تفعيل الحركة المسرحية وإلغاء إمكانية تسلل الملل إلى المشاهد. وهذا الآخر في معظم المواقف كان الوالد الذي ظهر لنا أنه كان على جانب هام في بلورة شخصية طه الإنسان. ونلمس بشكل خفي وكأن هناك "عتبا" حميما يرسله الابن للأب. فقد تكلف عناء العمل في جيل صغير كي يقف إلى جانب أبيه فيتحمل هموم تربية الإخوة، وتطوير التجارة البسيطة التي كان يقوم بها الأب، فتصبح أكبر وأنجح. إن المونودراما هي بحد ذاتها مسرحية الشخص الواحد، ولكن على المخرج والممثل، كما قلنا، أن يجدا الطريق إلى المتلقي كي يسمع أكثر من صوت، وإلا بدت المسرحية ذات رسالة واحدة متحيزة للشخصية المركزية. وبما أن مسرحيتنا جاءت لتبرز مزايا هذه الشخصية في نجاحاتها المتعددة فقد جاء الحوار مع الآخر كي يساهم، بشكل يبدو حياديا، في إبراز الجوانب الإيجابية التي تدعو للإعجاب في شخصية طه، وبالتالي يتقبل المشاهد هذه "الشهادة"، وهذا "التحايل" من الطرف الآخر وكأنها لم ترو على لسان "طه". إن الأحداث التي تم اختيارها لبناء ورسم الشخصية كانت خفيفة الظل، وبالتحديد في قصة الولادة وثم في قصة الندوة الأدبية في لندن التي جمعت كبار الأدباء فارتبك طه الشاعر وأخذ يبحث عن الوريقات القليلة كي يقرأ منها قصيدته، رغم تأكده مرارا وتكرارا قبل اعتلائه المنصة من تواجدها في محفظته، ولكنه بحث دون جدوى وداس على رباط حذائه حتى كاد أن يسقط أرضا، إلى أن جاء العون من صديقه المرحوم الشاعر سميح القاسم، فعثر على الوريقات في المحفظة وفي المكان الذي تم فحصه مرارا للتأكد من وجودها. والأهم من هذا وذاك أن المشاهد سواء كان كبيرا أو صغيرا في السن فإنه لا يستمع إلى حكاية "طه" فقط ولا إلى سيرته فحسب، فقد نجح المؤلف والمخرج في جعل القضية الخاصة قضية عامة فتصبح قضية هذا الأديب ذات بعدين: اما البعد الأول فهو قصة الفلسطيني المنكوب ببلده وأهله وأحبائه الذين أجبروا على هجرة الوطن والتشرد فتذوق العائلة طعم الذل والهوان. لا تحتمل العائلة ذل الهجرة ويقرر الأب أن يعود مع أبنائه، بعد فقدان ابنة غالية في مقتبل العمر ودفنها في الغربة بعيدا عن الوطن. فتتحول القصة الفردية من قصة شخص واحد وتصبح بذلك نموذجا لكثير من الفلسطينيين الذين مروا تلك التجربة المرة. إنها حكاية الذاكرة الجماعية التي يجب ألا تمحى من وجدان الأجيال القديمة والحاضرة. وهي رسالة تقوم المسرحية ببثها ونشرها لجيل المستقبل لإحياء للذاكرة الجماعية وإنعاشها. أما البعد الثاني فهو البعد الإنساني المبني على جعل شخصية "طه" نموذجا للإنسان العصامي الذي يولد في ظروف أقل من عادية، في قرية متواضعة بعيدة عن مركز الحياة الأدبية والاقتصادية، ولكنه، بالرغم من الظروف الصعبة، فقد تمكن من أن يحقق نجاحين كبيرين في حياته، إذ أصبح أديبا يكتب القصة والشعر وتترجم أعماله إلى العديد من اللغات الأجنبية، وإلى رجل أعمال ناجح يتمكن من تأسيس وتطوير دكان تجاري يدعم العائلة فتعيش حياة حرة كريمة. مسرحية طه عمل مسرحي موفق تمثيلا وإخراجا، إذ خرجت المسرحية من الإطار الضيق إلى الإطار الأوسع وأصبح بإمكانها التواصل مع أجيال مختلفة من ناحية ومن محاورة الآخر والتحدث إليه من ناحية أخرى. لقد باتت حكاية شخص يحمل كثيرا من المواصفات التي يمكنها من أن تؤثر في الآخر ومن مخاطبته بروح إنسانية، دون التغاضي عن انتمائها وهويتها. أما الممثل عامر حليحل فقد تمكن من تجسيد دور طه الكاتب والإنسان، بكل ما يحمله من مواصفات. عن موقع الجبهة 25/10/2014 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |