include ('Up_.php'); ?>
آبار توفيق كنعان وعيونه - صبحي حديدي
«الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية»، التي تعدّها مؤسسة الدراسات الفلسطينية ضمن مشروع مشترك مع المتحف الفلسطيني، تحرص على الانشغال بتاريخ فلسطين الحديث ابتداء من نهايات الحقبة العثمانية وحتى اليوم؛ وتحرص، كما تقول وتفعل في الواقع، على «أن يكون وصفها لمختلف جوانب القضية الفلسطينية، موضوعياً وملتزماً في آن واحد، وأن تقدم الفلسطينيين كما هم – أناس فاعلون ومبادرون، وليسوا مجرد ضحايا». وفي هذا السياق، أحسنت صنعاً يوم 15 كانون الثاني (يناير) الماضي بإحياء الذكرى الـ59 لرحيل الطبيب والأديب والباحث والمؤرخ والأنثروبولوجي توفيق بشارة كنعان (1882 ـ 1964)، الفلسطيني الولادة، واللبناني الأصول.
إنه، كما تقول منصّة الموسوعة، أحد «روّاد الباحثين الفلسطينيين العرب في الشؤون التاريخية والفولكلورية والإثنوغرافية للفلسطينيين بصفتهم الوطنية وليس بوصفهم طوائف دينية مختلفة تسكن أرض فلسطين، فكان أوّل من ثبّت لفلسطين ككلّ هوّيتها الثقافيّة». ولقد سبق لهذه السطور أن اقترحت صورة قلمية لشخصية كنعان، في كتاب صدر بالفرنسية سنة 1997 تحت عنوان «فلسطين: الرهان الثقافي»؛ ضمّ أيضاً موادّ مماثلة عن روحي الخالدي، بندلي صليبا الجوزي، خليل سكاكيني، إبراهيم طوقان، إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا، غسان كنفاني، محمود درويش، وإدوارد سعيد. يومذاك، كما اليوم أيضاً، تستوقف المرء حقيقة أولى محورية في مسارات كنعان، هي أنّ مساهماته الفذّة المتنوعة في التنقيب عن، وتبيان وتدوين، تاريخ فلسطين الشعبي والقاعدي إذا جاز التعبير؛ إنما صدرت من رجل مسيحي أرثوذكسي، وكانت ردّاً عملياً وعلمياً بليغاً في دحض مزاعم صهيونية قدّمت فلسطين كأرض خراب، وجرّدت الفلسطينيين من أي تجسيد إنساني، بل أنكرت وجودهم كلياً.
وإذا كان الفلسطيني، كما ساجل كنعان، ينتمي بقوّة إلى عمقه العربي والإسلامي؛ فلأنه لا يزعم أيّ نقاء عرقي، بل يفاخر بأنه جماع معقد ناجح لثقافات بابلية وعمورية وآرامية وكنعانية وفينيقية وفرعونية وعبرانية وهيللينية وإسلامية. وفي كتابه الهامّ «قضية عرب فلسطين»، الذي صدر أولاً بالإنكليزية وترجمه إلى العربية النهضوي العلماني المعروف سلامة موسى سنة 1936، وصف كنعان أهمية الفتح العربي الإسلامي لفلسطين في القرن السابع، وكيفّ تعرّب الفلسطينيون سريعاً وعلى نحو بنيوي شامل، فولدت هويتهم وترسخت أكثر فأكثر مع الغزوات الخارجية اللاحقة (الصليبية والعثمانية والغربية)، من دون أن تخسر عناصرها التكوينية الأولى.
ولد كنعان في بيت جالا، البلدة الفلسطينية التي تتّسم بتعددية مسيحية ـ إسلامية مميّزة، ودرس في دار المعلمين بالقدس، ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، وتخرج منها طبيباً عام 1905. هذا الطور الأول في مراقبة المحيط الفلسطيني والعربي المجاور أعقبه العمل الطبي الميداني الواسع، حتى عام 1947، حين عمل في مستشفيات فلسطين، وترأس دائرة الملاريا التابعة لمكتب الصحة العام، كما ترأس دائرة المختبرات الطبية العثمانية التي يمتدّ نشاطها من بئر السبع في فلسطين إلى مدينة حلب شمال سوريا. وتابع أثناء ذلك تعميق معرفته الطبية، فدرس علم الجراثيم والأمراض الاستوائية وأمراض الدرن على يد أطباء ألمان، وكان اتقانه لستّ لغات قد أتاح له توسيع معارفه النظرية، وكتابة المقالات في صحف بريطانية وألمانية وفرنسية.
وفي هذا الطور سوف تتكامل ملامح كنعان الأنثروبولوجي، بالمعنى الدقيق لفروع علمٍ لم يكن قد دخل إلى العالم العربي بعد، لأسباب تاريخية وثقافية (ذات صلة بالقراءة الدينية لأصل الإنسان والتكوين)، واجتماعية (على رأسها أنّ العلم بدا عنصرياً وغربي التمركز في حديثه عن الأقوام البدائية وشعوب آسيا وأفريقيا). ففي فرع الأنثروبولوجيا الجسمية الفيزيقية وضع كنعان كتباً في الطبّ المحض (مثل «حبّة حلب»، و»التهاب السحايا الدماغية والشوكية في القدس»، و»عدوى الجذام»)؛ وفي علم اجتماع الطبّ أيضاً (كتابه المدهش «الطبّ الشعبي في أرض الكتاب المقدس»، ونماذج مقالتيه «علم النبات في الخرافات الفلسطينية» و»طاسات الرعبة العربية»)، وهي مؤلفات تدرس تاريخ العلاقات الوثيقة بين العلاج المادي عن طريق التداوي بالأعشاب، والعلاج النفسي عن طريق توظيف رموز الخرافة الشعبية وأساطيرها.
كما نشر كنعان عشرات المقالات التي تناقش ظواهر أنثروبولوجية ثقافية مباشرة: النور والظلام، «ماء الحياة»، «اللعنة» في التراث الشعبي الفلسطيني وخرافاته، رموز الطلاسم العربية، و»الينابيع المسكونة» و»الشياطين المائية» في فلسطين؛ وهذه الدراسة الأخيرة، اللامعة والمذهلة في سعة أبحاثها الميدانية، نُشرت بالإنكليزية في «مجلة جمعية فلسطين الشرقية» التي كانت تصدر في القدس، واشتملت على قراءات كنعان في المعتقدات والطقوس والخرافات المرتبطة بسكنى الجان والشياطين في العيون والآبار، خاصة تلك القريبة من المقامات، وأصناف ساكنيها من «أهل الأرض» و»الأرواح السفلية» و»الأرواح الجهنمية»، ممّن تناوبوا على تجفيف الينابيع أو «تفوير» مياهها طبقاً لميول الشرّ أو الخير لدى ساكنها.
ولا يُغفل، هنا، عن سياسة كنعان وأنشطته النضالية في سبيل فلسطين والمشرق عموماً، من منطلق يقينه المركزي بأنّ «الإمبريالية البريطانية» شريكة مع «الصهيونية العالمية» في الاستيلاء على فلسطين؛ وتلك خيارات لم تسكت عنها سلطات الانتداب البريطانية فعمدت، سنة 1939، إلى اعتقاله، مع زوجته وشقيقته، والزجّ به في سجن عكا. ومن زنزانته لم يتوقف كنعان عن التبصّر المعمّق في هويات موطنه المتعددة، التاريخية والجغرافية مثل الأركيولوجية والمعمارية، حتى كأنه انقلب إلى آدميّ يساكن عيونها والآبار…
عن القدس العربي
22/1/2023
include ('facebookshare.php'); ?>
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com
|