متحف الياس أبو شبكة: توثيق لرومنطيقية شعريّة متمرّدة - نقولا طعمة


اتّسمت حياته بالتحفّز الدائم ونزعة التجديد. ولد ثرياً وعاش فقيراً بعد وفاة والده. من هو إلياس أبو شبكة؟ وماذا تعرفون عن متحفه؟

عند زاوية على الطريق العام العابر صعوداً في بلدة زوق مكايل الكسروانية في لبنان، تُطالِع عابر السبيل لافتة تحمل عنوان "متحف الياس أبوشبكة" على سور حديدٍ لبيت قرميد حجر مقصوب بإتقان، هو نموذج للبيوت اللبنانية التي نمت، وانتشرت في القرن التاسع عشر، وما بعد، وغالباً ما تشير إلى ثراء أصحابها.

ذات يوم، كان المبنى بيتَ الشاعر اللبناني الراحل الياس أبو شبكة، وقد لعبت العديد من التطورات دوراً في تحويله إلى متحف باسم هذا الشاعر، ومن حُسن الصدف أن للبلدة رئيس بلدية متفهم للتطورات الحضارية التي بلغتها الحياة العامة اللبنانية، وهو نهاد نوفل، الذي أوقف جرافة في أوّل يوم عمل لها على هدم المنزل لإقامة بناء استثماري ضخم مكانه.

نوفل الذي دخل بتحدي منع إزالة البناء، كان عليه متابعة ما بدأه، فعمل بكلّ جهد لاستملاكه، وتحويله لمتحف، في عملية شاقّة وطويلة النفس، وتعود روايتها، وتطوراتها، إلى مطلع القرن العشرين.

عائلة "أبو شبكة" ثريّة، وربّ المنزل من كبار التجار اللبنانيين الذين عملوا في المهجر حيث أنجب ابنه الياس سنة 1903، في مدينة بروفيدانس (عاصمة ولاية رود آيلاند الأميركيّة)، وعاد به طفلاً إلى زوق مكايل في العام عينه.

عائلة ثرية عاشت برخاء، لكنها سرعان ما خسرت رخاءها بفقدان الوالد في حادث أليم في إحدى الدول العربية حيث كان يعمل.

حياة العائلة انقلبت رأساً على عقب، والفتى الياس الذي كان يتعلّم في إحدى أهم مدارس لبنان في عصرها - مدرسة عينطورة - اضطر تحت تراجع وضع العائلة الاجتماعي إلى ترك المدرسة، بحسب ما أفادت "الميادين الثقافية" رئيسة اللجنة الثقافية في بلدية زوق مكايل ناتالي فرح، مضيفة أنه "عند وفاته، كان البيت مرهوناً لأحد الأثرياء، لأنه بعد وفاة الوالد تدهورت اوضاع العائلة الاقتصادية والمالية".



عمل أبو شبكة في التدريس، والكتابة، والتأليف، والترجمة لكي يغطي حاجات العائلة، وعندما توفي سنة 1947، أخذ الدائنون البيت، وتفيد فرح أنه "عندما تسلم نهاد نوفل رئاسة البلدية، عمل على استعادة المنزل، ولم ينجح بذلك إلا بعد الحرب، وجرى تشكيل لجنة للاهتمام بمقتنيات الشاعر من أنسبائه وأصدقائه، ثم جرى ترميم المنزل، وتجهيزه بأغراض الشاعر ومنها أشعاره بخط يده، ورسائله بثلاث لغات، وعصاه، ونظارتيه، وصور العائلة، وسريره، وسوى ذلك".

من مميزات أبو شبكة، حدّة طباعه، وتمسّكه بقناعاته، وسرعة بداهته، لذلك، كانت تأتيه أفكار أبيات شعرية في لحظة انشغال، فيكتبها على جدار المنزل، ويعدّلها عند الضرورة.

تتحدث فرح عن هذه الناحية من حياة أبي شبكة، وتقول إن "الملفت في المتحف أن الشاعر كان يكتب أشعاره على الحائط، وكانت جدران منزله بمثابة مسوّدة، فكان يشطب، ويعيد الكتابة".

عند تسلم البلدية للبيت، عملت على قلش طبقة الكلس التي كانت تغطي الكتابات، وأجرت عملية تصوير وتخطيط (Scan) الكتروني لها، ثم جرى طبعها على برادي عُلِّقت على نوافذ المتحف، كما أفادت فرح.

اتّسمت حياة أبي شبكة بالتحفّز الدائم، ونزعة التجديد، وبسبب إتقانه للفرنسية، اطّلع على العديد من الكُتّاب، والمسرحيين، والشعراء الفرنسيين، وترجم العديد من أعمالهم. كما ساهم في تأسيس "عُصبة العشرة" الأَدبيّة التي ضمّت عدداً من الكُتّاب والأُدباء اللبنانييّن الذين ثاروا على الأَساليب القديمة للأَدب، وعملوا على كسرِ الجُمود الفكريّ في الحياة الثقافيّة العربيَّة.

صاغ أبو شبكة أشعاره على موازين الشعر العربي، لكن من دون التزام بالعمود الشعري التقليدي، وتضمّنت أشعاره التزاماً بقضايا الانسانية، والإصلاح، ودان صانعي الحروب، واهتم كثيراً بالحياة العاطفية، وكانت الطبيعة من الهاماته، فأنشدها، وأخذ من صورها تعابير زينت أشعاره بطابع خيالي.

ومن الأمور التي تدلّ على نزعة التمرّد لديه قصصه مع النساء، وتذكر فرح أنه "كان لأبي شبكة 3 نساء في حياته، أولاهنّ أولغا ساروفيم، التي أحبها كثيراً، لكن نظراً للتفاوت الطبقي بين عائلته الأرستقراطية، وعائلة أولغا المتواضعة، لم يسمح له أهله بالزواج منها".

رغم رفض الأهل، أصرّ الشاعر على الوفاء لحبيبته، وظل مرتبطاً بها زهاء 9 سنوات، وجرى الزواج بصورة مغايرة للسائد، ومن هنا يظهر نزوع أبو شبكة التمردي.

تقول فرح إن: "الزواج تمّ، ولأن البيت لا يتسع لزواجه، ولم يكن قادراً على الاستقلال عن بيت أهله لأسباب مادية، وكانت أمه ترفض زواجه من أولغا، كما كانت شقيقته الصغرى فرجيني مريضة عقلياً، ولا يريد الأهل ظهورها على الناس، لذلك بقي أبو شبكة وأولغا كل منهما في بيت أهله بعد زواجهما"، وهذا منافٍ للسائد في المجتمعات التقليدية.

أحب أبو شبكة أولغا كثيراً، ووضع لها ديوان شعر خاص بها، وكان يسميها "غلواء"، كلمة معكوسة الحروف لاسم أولغا.

ولم يمنع زواجه بأولغا أن يكون لأبي شبكة صلات عاطفية بنساء أخريات.

المتحف



يمتد المتحف على مساحة 1000 متر مربع تقريباً محافظاً على الطابع الذي كان يحبه أبو شبكة، وفي باحته نصب حجر للشاعر نحته الفنان اللبناني بيار كرم، ومحفور عليه بيتان من الشعر:

لبنان أولك الدنيا وآخرك الدنيا

وبعدك لا أفق ولا شعب.

"في المتحف، صور كثيرة لغلواء، ورسائل له. سنة 2008، افتتحت البلدية المتحف باحتفاليّة كبيرة، وسنة 2019، جرى تصنيف المتحف كمتحف وطني من قبل وزارة الثقافة اللبنانية"، بحسب فرح.

شكّل البيت ملتقى لأدباء تلك المرحلة، وشعرائها، ومفكّريها، مثل مخائيل نعيمة، ومارون عبود، وسواهما، ومنه وضع أبو شبكة ما لا يقل عن 30 كتاباً بين ترجمة وتأليف منها: "طاقات زُهور"، و"العمال الصالحون"، و"الرسوم"، و"روابط الفكر والروح بين العرب والفرنجة". وله مجموعات شعريّة أبرزها: "القيثارة"، و"أفاعي الفردوس"، و"غلواء".

ولَهُ ترجماتٌ كثيرة عن الفرنسية، أبرزها: "تاريخ نابوليون"، و"الطبيب رغماً عنه"، و"لبنان في العالم"، و"تلك آثارُنا"، و"ميكروميغاس"، و"أوسكار وايلد أمام القضاء"، و"بودلير في حياته الغرامية”.

وكان له في الصحف والمجلات العربية مقالات في مواضيع متنوعة، وقصائد، ودراسات، وترجمات واسعة.

عن الميادين
21/9/2022






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com