عودة الى أدب وفن

الحب والجمال في قصيدتين من القصائد المُغنّاة: "يا ليلُ الصبُ متى غدُهُ" و "مضناك جفاهُ مرقدُهُ" - د. منير توما


إنّ قصيدة "يا ليلُ الصبُّ متى غدُهُ" من أشهر قصائد أبو الحسن علي القيرواني الحصري. والأبيات التي سنتناولها بالبحث والتعليق هي الأبيات المختارة من القصيدة الكاملة والتي غنّتها - هذه الأبيات - السيّدة المطربة فيروز. تمحورت هذه القصيدة أساسًا حول معاني الغزل التقليدية: الصبابة وما تسببه من الأرق والقلق، والعيون وما تنصبه من شرك، والشوق وما يفعله بالدموع. ومن اللافت أنّ هذه القصيدة قد عورضت من شعراء عدة في العصر الحديث أمثال أبو القاسم الشابي والأخطل الصغير بشارة الخوري وأمير الشعراء أحمد شوقي التي عارضها بقصيدتهِ الشهيرة التي غنّاها الأستاذ الموسيقار محمد عبد الوهاب: "مضناك جفاه مرقدهُ" والتي سنتطرق إليها لاحقًا بالتعقيب في هذا السياق.

إنّ الجامع المشترك بين قصيدتي "يا ليل الصب" للقيرواني الحصري، و "مضناك جفاهُ مرقده" لأحمد شوقي أنَّ هاتين القصيدتين ينتميان الى مدرسة الرقة العاطفة

(sentimentalism)، وكلا الشاعرين هنا رغم البعد الزمني بينهما يعبّران عن شعر رومانسي غنائي حالم يفصح عن محب عاشق متفتح لروحانية الحياة وجمالياتها في بحار من الرؤى والأطياف تتمركز في عبادة وتقديس الجمال من خلال صور جديدة مبتكرة في قاموس العاطفة والوجدان، وقد تميّزت القصيدتان بقوة العاطفة وحرارتها مما منح الشعر فيهما الصدق الفني والحرارة والجمال.

وفي بداية قصيدة "يا ليل الصب" نرى الشاعر القيرواني الحصري يشبه الليل بإنسان يخاطب ويسأل عن موعد لقاء المحبوبة بقولهِ:

يا ليلُ الصبُّ متى غده
                      أقيامُ الساعةِ موعدُهُ

ويتابع الشاعر قوله:

رَقدَ السُمّارُ فأرّقَهُ
                      أسفٌ للبينِ يردّدهُ

وهنا يقول الشاعر مخاطبًا الليل بأنّه حتى السُمّار، الذين يسهرون آخر الليل للحديث، رقدوا وناموا إلّا الشاعر فقد أرّقه فراق الحبيب.

ويصف الشاعر ما آلت إليهِ حاله من حزنٍ وألمٍ تمتّل بسهرهِ المرير، وهو ينظر الى السماء متأملًا النجوم راصدًا إياها حتى أن هذه النجوم قد بكت عليه ورقّت لوضعهِ وحزنهِ وهو يطيل النظر إليها حيث يقول:

فبكاهُ النجمُ ورقَّ لهُ
                      مما يرعاهُ ويرصدُهُ

والبيت التالي يشبه بهِ المحبوبة بالغزال وهو يشير الى ما تتمتع بهِ محبوبته من رقة ورهافة بحيث أنه يخاف عليها أن تتأذّى من كلام الواشين:

كَلِفٌ بغزالٍ ذي هيفٍ
                      خوفُ الواشينَ يُشَرِّدَهُ

إنَّ الشاعر يعشق الحسن ويقدّس الجمال في شاعرية حالمة ورومانسية هامسة رقيقة ويستمر قائلًا:

نصبت عيناي له شركًا
                      في النومِ فعزَّ تصيُّدُهُ

في هذا البيت يشبه الشاعر عيونه بالصيّاد الذي ينصب لمحبوبته فخًّا لأنّ رؤية المحبوبة قد عزّت عليه في الحقيقة، فلعله يراها في المنام، ولكن الصيّد هنا صعب في الحقيقة وفي المنام. وتتجلّى روعة الوصف بحرية الوجدان والقلب بنشوتهِ وحرارته وانفعالاته الرومانسية التي تُعدّ ملجأ وملاذًا للشاعر يهرب إليها من مرارة الواقع الذي يعاني منه ويكابده بفعل المحبوبة التي يتغزّل بها.

ونختم بالبيتين الواردين في اغنية فيروز من الأبيات المختارة للأغنية من القصيدة حيث جاء فيهما:

يا مَنْ جحدتْ عيناهُ دمي
                      وعلى خدّيهِ توردُّهُ

خدّاكَ قد اعترفا بدمي
                      فعلامَ جفونُكَ تجحَدُهُ

في هذين البيتين نرى الشاعر يقول أنّ سيف عيني المحبوبة قد سفك دمه، والدليل على ذلك تورُّد واحمرار وجنتي المحبوبة التي قتلته (مجازًا)، وبالتالي فإنَّ خدّيها يقرّان ويعترفان بجريمة عينيها ويتساءل مستغربًا عن انكارها لهذا الجرم المشهود. وفي هذهِ الأجواء نلمس كيف أنّ الشاعر يحلو له التغني الحزين الذي يدغدغ حواس المستمع، ويحمله الى دنيا من شجنٍ لطيف، ولحن أليف، دون أن يبعث فيه الأسى أو يدفع به الى الإشفاق على الشاعر الولهان.

ونأتي الى قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي "مضناك جفاه مرقده" التي عارض فيها قصيدة القيرواني الحصري "يا ليل الصب" آنفة الذكر، وفي هذه القصيدة نختار الأبيات التي لحنّها وغنّاها الموسيقار الأستاذ محمد عبد الوهاب حيث جاء في البيت الأوّل منها:

مضناكَ جفاهُ مرقدُهُ          وبكاهُ ورَحَّمَ عُوّدُهُ

أي أنَّ من أضناه هواك أسير حبك قد هجر ولام عليه مكان نومه وسريره وبكى عليه وترحم عليه الذين يعودونه أي يزورونه لمرضه بالحب.

ويتابع القول:

حيرانُ القلبِ مُعَذَّبُهُ          مقروحُ الجفنِ مُسَهَّدُهُ

ويعني بذلك أنّه مَعَذَّب القلب من شدة الحيرة ومجروح الجفن من قلة النوم.

ثم يضيف:

يستهوي الورقَ تأوُهه         ُ ويذيبُ الصخرَ تنهّدُهُ

ومعناه أنهُ يسقط الحمام الطائر من تأوهه ومن شدة حرقته يذوب الصخر.

ونقرأ البيت التالي من القصيدة المغنّاة:

ويناجي النجمَ ويتعِبُهُ          ويقيمُ الليلَ ويُقْعِدُهُ

إنّ الحبيب يناجي النجم فيتعبُهُ من شدة ألمِهِ ويحدثُهُ ويسهر الليل حيران بلا هدف. وهكذا نشعر في هذه الأبيات أنّ الشاعر يوحي بأنّ الحبيب الولهان يستعذب الشجن، ويحلق في جو المعاناة، وتروعه وتفزعه وتقض مضجعه لحظات الفرقة والرحيل، فيتأسى ببقايا ليالي الحب، ليرضي روحه الظمأى للمحبوبة وقلبه الحزين.

إنّ هذه الخصائص الرومانسية في قصيدة أحمد شوقي هذه تتفاعل بين الذات والموضوع، واستخدام الرمز والمجاز في ذلك فضلًا عن الذاتية والولوع بعبادة الجمال متمثلة أصدق تمثيل في قول شاعرنا:

الحُسْنُ حلفتُ بيوسفهِ          والسورةِ أنكَ مفردهُ

ويقصد هنا بالكشف عن فكرتهِ بأن محبوبته أشبه الناس بيوسف الصديق الذي امتاز بحسنه وجماله.

ويتابع قوله في هذا الصدد:

وتمنّتْ كلُّ مُقطعّةٍ          يَدَها لو تُبْعَثُ تشهدُهُ

وفي هذا البيت إشارة الى نسوة مصر اللاتي قطعنَ ايديهنَ لو بعثنَ ليشهدنَ حُسْنَهُ. إنّ أمير الشعراء أحمد شوقي قد أجاد وأبدع في هذه القصيدة باستخدام الصورة الشعرية (Poetic image) من خلال تصوير باللون وتصوير بالحركة وتصوير بالتخييل، كما أنه تصوير بالنغم والموسيقا الناعمة الهامسة وذلك كما يشهد البيتان التاليان أيضًا:

جحدتْ عيناكَ زكيَ دمي          أكذلكَ خَدُّكَ يجحدُهُ

قد عزَّ شهودي إذ رمتا          فأشرتُ لخدِّكَ أَشْهِدُهُ

وهنا يخبرنا الشاعر بأنّ الحبيب المتيَّم يشكو من جحود المحبوبة وغدرها به ونكرانه له، وهو لم يجد شهودًا على حقيقة هواه الصادق فأشهد خدّ المحبوبة.

وفي البيت الذي يلي يقول الشاعر على لسان الحبيب:

بيني في الحب وبينك ما          لا يقدر واشٍ يفسدُهُ

أي أنَّ حب الحبيب لمحبوبته لا يتأثر بشيء ولا يستطيع الواشي أو الكاذب أن ينال منه. والبيتان التاليان يؤكدان مدى عشق الحبيب لمحبوبته الى درجة الجنون لا بل العبادة أيضًا فلا يقدر أن ينساها:

ما بالُ العاذلِ يفتحُ لي          بابَ السلوانِ وأوصدُهُ

ويقولُ تكادُ تجنُ بهِ          فأقولُ وأوشكُ أعبُدُهُ

والأبيات الأخيرة من قصيدة "مضناك" المغنّاة بصوت الأستاذ عبد الوهاب تبيِّن لنا أنّ أمير الشعراء أحمد شوقي يخلع على صورهِ الشعريّة ملامح من أحاسيسه الروحية والذوقية والنفسية فتجيء تلك الصورة قطعة من روحهِ ونفسهِ، مما يمنحها الحرارة والصدق الفني والجمال والذي يتمثّل بمعانيهِ على هذا النحو من القصيدة:

مولاي وروحي في يده          ِ قد ضيّعها، سلمت يدُهُ

ناقوسُ القلبِ يدقُ له          وحنايا الأضلعِ معبدُهُ

قسمًا بثنايا لؤلؤهِ          قسم الياقوت منضدُهُ

ما خنتُ هواكَ ولا خطرتْ          سلوى بالقلبِ تبرّدُهُ

وفي هذهِ الأبيات تبرز رقة شاعرنا الكبير وعذوبته واحتواء شعر هذه القصيدة على قسط وافر من النغم والموسيقى فضلًا عن توافق الكلمات وانسجامها.

وفي الختام، نستخلص مِن القصيدتين الغنائيتين "يا ليل الصبُّ متى غدُهُ" و

"مضناك جفاهُ مرقدُهُ" أنَّ الشاعرين القيرواني الحصري، وأحمد شوقي يمتازان في هاتين القصيدتين بأنّ شعرهما هنا هو شعر ذاتي (subjective poetry)، وهو تعبير أصيل وصادق عن أحاسيس ومشاعر وعواطف ووجدان المُحبّ المتيّم والعاشق المعذّب، وذلك بكلمات كلٍ من هذين الشاعرين المتميزين الرومانسيين في هاتين القصيدتين التي نرى فيهما أنَّ الشعر هو تعبير عن مشاعر تركّز على العالم الداخلي للمحِّب على لسان الشاعرين في هذه الحال أي انعكاس للعالم الداخلي للشاعر عمومًا، وبهذا فإنّ قوة الخيال هي البوتقة التي تنصهر فيها كل عناصر الجمال من ذهنية وشعورية.

عن الاتحاد
5/8/2022




عودة الى أدب وفن



® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com