عودة الى أدب وفن

بين التاريخ والسياسة: هل حقاً بردى ترعة؟ - ثائر دوري


كتب حازم نهار نصاً تحت عنوان «ترعة بردى» أراد منه انتقاد الأيديولوجيا. كتب قبل حوالي ربع قرن، «دعوت أصدقاء مصريين لزيارة سوريا، كنت قد تعرفت إليهم قبل ذلك في مخيمات الشباب العربي… كنت آنذاك غارقاً في القومية العربية، على الرغم من أنني لم أكن بعثياً أو ناصرياً، بل كنت أفهمها بطريقة مغايرة للبعثيين والناصريين، طريقة تحمل المعاني الإنسانية والديمقراطية، وقد تعلمتها من ياسين الحافظ وإلياس مرقص وعبد الله العروي.. هذا الغرق في القومية العربية كان يدفعني إلى شيء من التقديس لبعض الرموز المكانية، فكان نهر بردى مثلًا يعني لي الشيء الكثير. كان يعني بالنسبة إليَّ «لقاء بردى والنيل» قبل شعر نزار قباني فيه، وقبل أغاني فيروز عنه.. المهم، جاء أصدقائي المصريون إلى دمشق، وهم أكثر غرقاً مني في القومية العربية بوصفهم ناصريين، وألحّوا عليَّ يريدون التنعم برؤية بردى.. في إحدى جولاتنا، كنا نمشي فوق «جسر الرئيس» فأمسكت بأحدهم وقلت له: انظر، هذا هو بردى. صمت قليلا ونظر إليَّ بدهشة قائلاً: ده بردى! دي ترعة يا راجل! صمتّ قليلاً، ثم انفجرنا بالضحك.. لكن لا أنكر أنني حزنت قليلاً في داخلي، فقد كنت قبل تلك اللحظة أرى بردى نهراً عظيماً.. هذا ما تفعله الأيديولوجية عندما تخيِّم على عقل المرء؛ فتجعلك ترى الترعة بحراً، والزبالة ياسميناً، والصوت النشِز سمفونية، والقط نمراً. كثيرون منا مصابون بعمى البصر والبصيرة بحكم الأيديولوجيات التي أكلت عقولنا، أكانت أيديولوجيات قومية أم يسارية أم دينية» انتهى نص حازم نهار.

ما هي الأيديولوجيا؟

يمكن القول باختصار إن الأيديولوجيا هي مجموعة الأفكار والتصورات التي تحكم رؤية الإنسان لحاضره وماضيه ومستقبله وعلاقته بالمكان الذي يعيش فيه، ومن البديهي أنه لا يوجد إنسان من بائع الخضار إلى الأستاذ الجامعي، لا يملك تصوراً ما عن حياته، وما يجب أن تكون عليه، حتى لو ادعى غير ذلك، وهو ادعاء شاع كثيراً منذ بداية التسعينيات في الأوساط اليسارية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

كل إنسان لديه تصور لماضيه وحاضره وما يسعى إليه في المستقبل، وبالتالي هو يحمل ما يمكن أن نطلق عليه، أيديولوجيا مهما كانت بسيطة. لذلك أجد أن هجاء الأيديولوجيا هكذا بالمطلق، واعتبارها أم الشرور التي تعمي البصر والبصيرة أمراً بلا معنى، وحتى لو ادعى الإنسان أنه بلا أيديولوجيا، وهذا أمر غير ممكن عملياً، حتى لو حصل ذلك فيمكننا أن نقول إنه يحمل «أيديولوجيا رفض الأيدولوجيا» أو «أيديولوجيا بلا أيديولوجيا» في الطب نستعمل أمثال هذه التعابير مثلا لدينا مرض اسمه صلابة الجلد scleroderm هناك نمط منه نسميه صلابة دون صلابة جلد Systemic Sclerosis Sine Scleroderma. وللقراء خارج نطاق السلك الطبي نقول إن في هذا المرض تختفي الأعراض الظاهرة، لكنه يفتك بالجسم من الداخل، وهذا يجعل التشخيص والعلاج أصعب. وما نخلص إليه أنه إذا كانت الأيديولوجيا مرضاً فإن من يدعي أنه دون أيديولوجيا حاله كحال هذه الأمراض تختفي الأعراض الظاهرة، في حين يبقى المرض يفتك في داخل المريض.

ننتقل إلى بردى وحكايته مع النيل. أنا شخصياً لم أسمع أحداً يقارن بردى بالنيل حجماً، ويجب أن يكون الشخص بالغ الحمق أو ذا لب غير حصيف كما يصف الشاعر المعري من يفعلون ذلك:

إذا كنت ذا لب حصيف فلا تقس

بحمصك والميماس دجلة والكرخا

و بالمناسبة إن الوصف بالحمق يعمل على جهتين: جهة من يتغافل عن الفرق بالحجم بين العاصي ودجلة، وأيضاً جهة من يعتبر الوزن أو الحجم مبتدأ الأشياء ومنتهاها. على سبيل المثال فقط، أيهما أكثر قيمة غرام من الذهب أم كيلوغرام من الحديد! وقد لامس الشاعر السمؤال الموضوع من زاوية أخرى. فانتقد بلطف استناد التقييم إلى الكم. قال:

تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل

لحسن الحظ أن الكم (الحجم ـ الطول ـ الارتفاع ـ الوزن) لا يرتبط دائما بالكيف في نشوء الحضارات البشرية، ولو كان الأمر كذلك لتركزت الحضارات البشرية حول نهر الأمازون، باعتباره النهر الأكبر، أو على الهمالايا أو التيبت باعتبارها الأعلى، أو في بنغلاديش باعتبارها الأكثف سكانيا، أو في منطقة القطبين باعتبارهما الأبرد. وكانت بلاد الشام صفراً على الشمال، ولما نشأت أي حضارة على ترابها، مع أن نشوء أغلب الحضارات الإنسانية كان بين جنباتها. فبلاد الشام تشكل مع بلاد الرافدين ووادي النيل مثلثأ متساوي الأضلاع، يطلق عليه اسم مثلث الحضارات. مع أنها لا تملك أي شيء من أكبر، أعلى، أبرد، أكثف، إلخ.

يبدو أن قصة بردى مع بعض أخوتنا المصريين، الذين اعتادوا على ضخامة نهر النيل واعتبروه مقياساً للأنهار، قديمة. فقد كتب الشيخ علي الطنطاوي عن الأمر قال، «لما قدم شاعر العرب عاصمة العرب ومرّ على بردى وهو يمشي بين قصر أمية ودار البلدية مشية العاجز الهرم، قال له صاحبه مستقلا بردى مستخفاً به. أهذا الذي ملأت الدنيا مدحاً له؟ إنه ترعة من ترع النيل؟ يظن صاحب شوقي أن النهر بكثرة مائه وبعد ضفتيه.. هو الذي أطعم دمشق الخبز، وهو الذي زرع بساتين الغوطة. وهو..» (علي الطنطاوي دمشق صور.. من جمالها وعبر من نضالها. الطبعة الثانية 1987 مدار الفكر في دمشق).

دمشق هبة بردى، لولا بردى لما كانت دمشق، ودمشق كما هو معروف أقدم عاصمة مأهولة في العالم، بينما نهر الأمازون، أضخم نهر في العالم، لكن الاستيطان البشري فيه حديث، ولم يُنتج حضارة متقدمة.

هل كان شوقي والرحابنة وسعيد عقل ومئات الشعراء الذين تغنوا ببردى من المضللين أيديولوجياً؟

كيف تنشأ الحضارات؟

أمر لا شك فيه أن نشوء الحضارات حصل ويحصل في المناطق الواقعة بين حدي الوفرة والعوز. فالشعوب التي تعيش في وفرة مطلقة بسبب نهر ضخم، أو مناخ دائم الخضرة بسبب أمطار غزيرة، أو منطقة غنية بثرواتها حد التخمة. لا يوجد ما يدفعها للتغيير والبحث عن طرق جديدة للعيش، أو للتعامل مع الطبيعة، ذات يوم فسر غورباتشوف تخلف الاتحاد السوفييتي تكنولوجياً عن الغرب بقوله لقد دللتنا الطبيعة، في إشارة إلى ثروات بلاد السوفييت الكثيرة من نفط وغاز وقمح وأخشاب، التي أغدق تصديرها الأموال فمنع تحديث الصناعة. أما الشعوب التي تعيش في عوز مطلق فلا تملك أدوات التغيير المادية. إن الحياة في المنطقة الفاصلة يجبر البشر على ابتداع وسائل للتأقلم واستثمار الموارد الطبيعية المتاحة إلى أقصى حد، فيخترعون أدوات وأفكارا وطرق عيش للتأقلم مع ما هو متاح فتتفجر الحضارة. تقع منطقة بلاد الشام، وكامل حوض المتوسط في هذه المنطقة الفاصلة، لذلك نشأت فيها الأديان والحضارات، وبقي المتوسط لآلاف السنين مركز الحضارات البشرية.

أهمية بلاد الشام

لا تنبع أهمية بلاد الشام من كونها ترتكز في معيشتها على نهر ضخم مستقر كحال مصر مع النيل (رغم أن الفرات يمر بها إلا أنها لا ترتكز عليه) فكل من بردى والعاصي، أضخم نهرين فيها، أشبه بسواق صغيرة مقارنة بالنيل والفرات والمسيسبي، كما أنهما شديدا التأثر بالتقلبات المناخية، إذ تكفي دورة جفاف صغيرة كي يتراجع منسوبهما إلى ما يقارب الصفر، ومع ذلك ارتكزت حياتها على هذين النهرين وعلى أنهار أصغر.

ليس في بلاد الشام جبال شاهقة كالهملايا فأغلب أراضيه سهول منبسطة مع بعض الجبال متوسطة الارتفاع، وهي مفتوحة من كل الجهات، وبالتالي سهلة الاجتياح عسكرياً، ومع ذلك لم تتوقف الحضارات عن البزوغ في حقولها. وهي لا تقع على محيط ضخم كالمحيط الأطلسي أو الهندي، ومع ذلك وصلت سفنها التجارية إلى كل جنبات الأرض، وليس فيها ثروات عظيمة كمناجم الذهب، أو آبار البترول، ومع ذلك يطمع فيها الجميع. فما هو السر الذي يجعلها موضع أطماع الطامعين وقبلة المحبين؟

تنبع أهمية بلاد الشام من موقعها الجغرافي، قلب العالمين العربي والإسلامي، وجسر الحضارات. لكن الجغرافيا بحاجة إلى ديموغرافية بشرية تنهض بها، فالسكان المتناغمون حضارياً ودينياً وثقافياً مع كونها قلب العالمين العربي والإسلامي ومع كونها جسر الحضارات، هم سر بلاد الشام وهم ثروتها الحقيقية. لا يوجد مكان في العالم تندمج فيه الديموغرافيا و الجغرافيا كما هو الحال في بلاد الشام. لو كان سكان بلاد الشام يحملون عقلية انعزالية تخشى الغريب، أو يحيطون أنفسهم بأسوار كحال أهل الصين لضاعت وظيفة بلاد الشام، ولما كان لموقعها الجغرافي أي أهمية، و لو كان سكانها من الهندوس، أو من البوذيين لما استطاعت أن تكون قلب العالم الإسلامي وبوابة قبلته «شام شريف». ولو كان أهلها يتحدثون الإنكليزية لضاعت وظيفة قلب العروبة. ولو كان أهلها قساة محاربين لضاعت وظيفتها التجارية، ولو كانوا عنصريين لضاعت خصائصها التعددية. ولو كانت أهمية بلاد الشام تنبع من بئر نفط لاستطاعت الشركات إحضار عمال من أي مكان في الأرض لتشغيل هذا البئر، وهكذا دواليك.

اندغم سكان بلاد الشام مع جغرافيتها فحفظوها وقاموا بوظائفها الحضارية والثقافية والدينية، حتى إني صرت أشك في أنها دخلت ضمن جيناتهم. ومن هنا خطورة العبث بهذه الديموغرافيا المتناغمة مع الجغرافيا، إن أي عبث خارجي بديانة أو ثقافة أو تركيبة هذه الكتلة البشرية يحطم دور الجغرافيا وأكبر دليل على ذلك هو حال فلسطين، فالاستعمار الاستيطاني الصهيوني عطل وظيفة تلك البقعة الجغرافية بواسطة تهجير سكانها العرب وتوطين يهود صهاينة. كما أن الأنماط الفكرية والثقافية التي تنتشر في بلاد الشام يجب أن تكون متوافقة مع وظيفتها الحضارية والتاريخية، فأي انزياح خارج المنظومة الفكرية المشتقة من الحضارة العربية الإسلامية يؤدي إلى تعطيل كلي أو جزئي لوظيفة بلاد الشام، على سبيل المثال إن الأيديولوجيات والأفكار التي قطعت مع الإسلام، كانت ذات تأثير كارثي على دور بلاد الشام لأنها قطعت العلاقات مع المسلمين من غير العرب فحذفت ثلث الدور الحضاري والتاريخي لبلاد الشام فقد حرمت دمشق من كونها «شام شريف» وعطلت التواصل مع الأتراك وآسيا الوسطى والقوقاز وبقية مسلمي العالم. ومن نافل القول إن التنصل من العروبة بأي حجة من الحجج يعني انتهاء بلاد الشام بشكل تام…

وكل ما سبق ينطبق على بردى. أهمية بردى ليست بمائه فقط، بل بالبشر الذين يعيشون حوله. كتب أحد المؤرخين القدامى «ما كان لهذا الوادي أن يتجاوز في اتساعه شريطاً أخضر في قلب البوادي الملتهبة، لولا تدخل الإنسان الذي استنبط نظاماً عبقريا جرّ فيه المياه بعيداً عن سرير النهر ووفر بهذه الطريقة للأرض العطشى الرطوبة الضرورية لإحيائها وإخصابها، ومن ثم زراعتها. خلق نظام التروية هذا واحة اصطناعية ممتدة على طول عشرين كيلومتراً» (فؤاد افرام البستاني ـ دمشق الشام ـ المطبعة الكاثوليكية). قلنا في بداية الأمر إن دمشق هبة بردى وختمنا أن أهمية بردى نتجت عن نشاط إنساني. فبردى هو هبة من البشر ولا يمكن الحديث عنه دون الحديث عن البشر. هذه هي معادلة بلاد الشام جدل لا يتوقف بين البشر والطبيعة فلا قيمة لأحدهما دون الآخر. ولا يمكن فهم احدهما دون الآخر.

كاتب سوري
عن القدس العربي
29/6/2022




عودة الى أدب وفن



® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com