عودة الى أدب وفن

المرأة في حياة الأديب السوري حسيب كيالي - عبد الرزاق دحنون



"المرأة في القلب ومن لا يضعها في القلب فليس بآدم"، هذه الحكمة البليغة صرَّح بها المغني والملحن اليساري المصري الشيخ إمام في أحد أحاديثه الصحفية إلى مجلة "الهدف" الفلسطينية حين زار بلاد الشام شتاء عام 1984 تُلخص حقيقة فلسفة الأديب السوري حسيب كيالي في المرأة التي أحبها حتى تخوم العشق، فتركها تأخذ حيزًا هامًا في إنتاجه الأدبي وحياته، فالمرأة بطلة روايتيه "مكاتيب الغرام" و "أجراس البنفسج الصغيرة" وبطلة في معظم مسرحياته وقصصه، و "نعيمة زعفران" عنوان آخر مجموعاته القصصية، وكان يقصد بهذا العنوان الصحفية السورية المقيمة في باريس والمتزوجة من فرنسي "حميدة نعنع" كان يُمازحها عبر الهاتف فيقول: "اتركي هذا الفرنساوي يا حميدة هو ليس من ملتك وتعالي إلى دبي تزوجي من ابن مدينتك إدلب وعيشي معي بثبات ونبات حتى نخلِّف-إن شاء الله- طرشًا من الصبيان والبنات".

المثال الحاضر الآن قصته التي تحمل عنوان "تلك الأيام" -في ظني هي من أجمل القصص التي كتبها- افتتح قصته بشخصية "أم الناجي" التي نعرفها من خلال قصص كثيرة فهي من الشخصيات النسائية الأثيرة لديه. هذه المرأة الصغيرة المجففة ذات العينين الصغيرتين والتي شلوطت رموشها النار والسنون بحكم عملها خبازة بأجر، هي كادحة عاملة على طريقة الشيخ كارل ماركس، حيث تقف أمام التنور طويلًا ولو كانت الدنيا تموز أو آب. يقول: كانت معارفنا في تلك الأيام-في أربعينيات القرن العشرين- من النساء تقتصر على الأمهات والمحرمات وحدهن. وقد تنكشف علينا عجوز مثل "أم الناجي" صحيح أنها كانت لا تمانع في إبداء وجهها، ولكنها ما أن ترانا، ونحن في تلك السن المبكرة ما نزال، حتى تسرع في وضع شيء على رأسها لأن الله أمر بالسترة. ولأن شعر المرأة عورة ولو كانت مثل "أم الناجي" فإذا طُرق باب الدار ولم يكن وراء الباب غير الحريم، ولم يكن لربة البيت مناص من أن تُجيب وقفت خلف الباب وضعت في فمها شاشية أو غطاء صلاة أو كمًا أو فضل ثوب ثم أجابت الطارق. وذلك كي يخرج صوتها مشوهًا لأن صوت المرأة عورة. ثم يكتب هذه الملاحظة الدقيقة في قصته: ما أصفه الآن لا يشمل النسوة اللواتي يأكل عائلوهن خبزهم بعرق الجبين، أعني أولئك المطحونين من عتالين وسقائين وأجراء وبائعين متجولين في القرى من جهة وفلاحين من جهة أخرى. نسوة هؤلاء الكادحين لسن فاضيات لمثل هذا الترف، ترف أن يتخبأن أو يشوهن أصواتهن بشاشية. حجابهم ذاته نوع من فض العتب لأن نساء الكادحين يكدحن أيضًا.

هل كان حسيب كيالي يُنشد مجد المرأة؟ نعم، بكل تأكيد سعى من خلال حياته وإبداعه لأن يؤسس لثقافة كونية تُعطي المرأة حقها الطبيعي في أن تكون حرة بقدر ما تتسع الحرية. سعى لأن يكون الرجل شهمًا طيبًا أنيسًا ودودًا مع المرأة في كل مراحل عمرها وكتب في فاتحة روايته مكاتيب الغرام: أنا واثق من أن الظلمة التي تتخبّط فيها بطلة الرواية حالة طارئة ستخرج منها بناتنا حين نشفى كلنا من آثار القرون وننطلق جميعًا في طريق مضيئة ترن فيها الضحكات خالصة صافية. ولعل هذا ما أغواني بكتابتها.

حسيب كيالي صافي السريرة ناعم الضمير خلي القلب من شواغل الجاه والمال والسلطة، يقترب كثيرًا من أهل التصوف في آمالهم وأشواقهم. ونظريته في الحياة واضحة صريحة فهو كسّاب وهّاب. وهذه فلسفة قيمة لمن يُدرك فحواها جيدًا وهي تحتاج إلى شجاعة نادرة في القول والعمل وقد كان شجاعًا في حياته كما في أدبه. وها هو يحكي لنا في قصته "تلك الأيام" عن أول حب وأول قُبلة في حياته:

"لما رفعتْ المنديل في بوابة الدار أُفلتت ضفيرتان خرنوبيتان تصلان حتى منتصف ظهرها، عقدت في أصل كل منهما "ريبانة" سماوية اللون "البلوزة" صفراء مفتوحة الصدر قليلًا. الخدان موردان، هؤلاء حتمًا ينامون تحت ناموسية فلا يلدغهم البعوض، وهم حتمًا يشربون من نبع ماء بلدة "مرتين" لا من ماء "جُبّ" جمع من مياه المطر في صحن الدار في مدينة إدلب في الشمال السوري. خلال لحظة خاطفة خطرت لي الهتافات البلدية: "يا كربوجة بعسل، يا ناطف، يا ملبس بالفستق الحلبي" لحظة خاطفة لا غير، لعلها إنما استحضرتها المفارقة، ذلك لأن حدة الصبا وبكارة العينين، وبطر الإيماءة، وسورة المستقبل التي تُطل من كل شيء، من الجديلتين والعينين والخدين، نأت بي عن كل ما هو بلدي. ولم تلبث أن سنحت لنا فرصة، وإذا نحن يهجم واحدنا على الآخر، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، قصف رعود، إعصار مقطع اللجم، براعم تشق أغصانًا فتصبح معجزة الورد، إنها القبلة الأولى. إنها إطلالة ما بعد قطع الحبل السري على العالم. ما هذا؟ "وقف، أنا ما استطعمت، هات أرى مرة أخرى، لا هذه أيضًا ما هي راكزة" أكان ثمة مرات، أم انها مرة واحدة غرقنا فيها حتى الغيبوبة، حتى الذوبان، ذلك أن أختي لما فتحت علينا الباب ودخلت لم نسمع نحن شيئًا ولم نر".

في جلسة خاصة مع فنجان قهوة في بيته بحي "السطوة" في ديرة دبي ربيع عام 1993 باح لي بأن ما جاء في قصته "حلاق دبي" من مجموعته القصصية "نعيمة زعفران" يمسه شخصيًا وأن وراء ذهابه في رحلة استجمام من دبي إلى بانكوك هو البحث عن امرأة ترمّ العظم وتُخرج النفس من وحشة ألمت بها. وقد وُفق في مسعاه حيث تعرَّف في بانكوك إلى "مالا" وهي امرأة بوذية في التاسعة والثلاثين، جسدها مثل الزبدة الغنم، عذوبة في الوجه، أميل إلى السمنة، تخجل مثل بنت الأربعة عشر، تعرَّف إليها من خلال فتاة تايلاندية من أصل صيني التقى بها في دبي وهي في عمر أحفاده. أعطته عنوانها في بانكوك فسافر إليها بعد حين. سألته وهما في بهو الفندق في بانكوك: -بابا، ألم تشبك واحدة من فتيات الفندق؟ -كلا -لماذا بابا؟ -أخاف المرض والأطباء الجنسيين الحرامية، فقد ابتلى أحد زملائي في المؤسسة التي نعمل فيها في دبي بوسوسة صحية لجأ على أثرها إلى طبيب اسمه أحمد.

قاطعته:

-بابا أنت ثرثار.

-لماذا؟

-كنا في شيء صرنا في شيء آخر. أنا أسألك: ألم تتخذ لك صاحبة من فتيات الفندق، يعني "جيرل فريند"؟ فتجيء بسيرة لها اول مالها آخر عن طبيب دجال.

-طيب أسألي فلا أخرج عن الموضوع. لم أتدبر أمري لأني أخاف. عرّفيني بامرأة من سن السيدة والدتك، يعني مثلما تقولين في حيطان الأربعين تتناسب مع "باباكي" واياي أعني ابن الستين مبحبحة.

-قُم معي إذن.

-إلى أين؟

-إلى بيتنا.

-لماذا، لتعرفيني بالسيدة الوالدة؟

-لا، الوالدة لها زوج هو أبي وتسكن بعيدًا عن بانكوك.

-إذن؟

-جارتي في البيت.

-ما اسمها؟

-مالا.

-توكلنا على الله. حلوة؟

-الآن تراها.

-أرملة؟

-لا، على وشك الطلاق من زوجها.

-لماذا؟

-لم يتفقا.

-لها أولاد؟

-صبيان.

-مسلمة؟

-لا، بوذية.

-وزوجها؟

-مسيحي، وأطمئنك، هي عادت لا تحمل.

-والله يا ست "ريتا" ما عندي مانع، وإن كنت أتمنى أن تكون قادرة على أن تجيء لي بصبي.

-لماذا، أليس عندك أولاد؟

-عندي ولد، مشطوط، فإذا جاءني آخر ساقوه إلى العسكرية وخلصت منه.

أخذت "ريتا" حسيبًا إلى بيت يجب أن تعبر النهر لكي تصل إليه من الفندق الذي نزل فيه. بيت "مالا" كان نموذجًا للبيت الخشبي التايلندي الأصيل. راقت شخصيتها لحسيب، امرأة أنيسة جميلة فيها من الأنوثة ما يروي الظمأ ويفيض. غرفة "مالا" تقع في الطابق الثاني صعدوا إليها وكانت "ريتا" تقوم بدور المُترجم. لغة حسيب الإنكليزية ليست خيرًا من إنكليزية "مالا" يعني شبه لا شيء. ولكن ذكاء فؤاد "ريتا" الرائعة ومعرفة لها قديمة بقليل من الفرنسية جعلتهما يستنبطان لغة ثالثة هي التي استخدماها في سؤال "مالا" إذا كانت توافق على الانتهاء من طلاق زوجها نهائيًا والقبول بحسيب زوجًا جديدًا. اقترح على "مالا" و"ريتا" أن يذهبوا فيتعشوا عشاء تايلانديًا أو صينيًا لا يخلطه خالط ولا ينقصه حتى الشاي بالثلج. "مالا" هي التي ساقت السيارة القديمة المكلثمة وقُبيل المطعم استأذنت "ريتا" التي كانت في المقعد الخلفي أن تنزل لتشتري حاجة عرضت لها. بقي حسيب و"مالا" في السيارة وحدهما. التفت نحوها. كان وجهها مشغولًا. اكتشف أنها غارقة حتى أذنيها في تركيب جُملة بالإنكليزية وُفقت بعد حين إلى قولها: أي أم لاف يو. قال حسيب في شبه صراخ فرح: مي تو، وحياة "مالا".

في المحصلة لم يكن حسيب كيالي قادرًا على البقاء في بانكوك أكثر من أسبوع، فكان "مالا" بد منه، فاتفق و"مالا" من خلال الترجمانة "ريتا" على أن يغيب بعض الوقت تكون "مالا" في هذه الأثناء تتعلم بعض دروس الإنكليزية من كتاب ابنها الصغير. عاد حسيب كيالي إلى دبي كأنه منوّم، مسحور، خاف أن يكون قد فاته شيء من جمالات تلك الرحلة فلم يسجله في دفتر يومياته، فأكب على نقل متفرقات اليوميات واستذكار ما لم يكتبه إلى أن وصل إلى وداع "مالا" و"ريتا" والولدين في مطار بانكوك فقد بكى هؤلاء الناس الطيبون وهم يرونه يغيب ذاهبًا إلى قاعات الانتظار المخصصة للمغادرين.

عن الانحاد
11/3/2022




عودة الى أدب وفن



® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com