![]() |
|
عودة الى أدب وفن
دون التخلي عن الحب: على هامش موت ماركيز وانسي الحاج- محمود البياتي
![]()
مات بمرض السرطان أشخاص اعرف بعضهم عن قرب، كالروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، الشاعر اللبناني انسي الحاج ، المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد والفنان العراقي رافع الناصري.
قبلهم مات النحات اسماعيل فتاح الترك، المسرحي سعد الله ونوس، الروائي طاهر وطار، الكاتب والشاعر شريف الربيعي، الفنان السينمائي أحمد زكي وغيرهم كثيرون امسوا في عداد القتلى، حسب قول المتنبي: ‘اذا ما تأمّلتَ الزمانَ وصرفه / تيقّنتَ ان الموت نوعٌ من القتلِ’. اما بحسب الجواهري الذي جاء بعده بأكثر من الف عام فيقترن موت البعض بالشموخ والمرارة: ‘يموت الخالدون بكل فجٍ، ويستعصي على الموت الخلود’. فوجئتُ منذ فترة وجيزة انني مصاب أيضاً بهذا المرض الفتّاك الذي حولني سريعاً الى جسد واهن مسجون في حيز ضيق وينتظر. لم تعد الحياة مثيرة كالماضي. كنت في عيون الأصدقاء والصديقات مثالا على الأنسان المبتهج، الضاحك. اعترف انني عشت على نحو مقبول، ولكن لو خيروني بالرجوع إلى سن العشرين فلن أوافق. لا جدوى من اجتياز ذات الدرب الوعرة مرتين. او لعلني ‘خلقتُ ألوفا ‘لو رجعتُ الى الصبا’ لفارقتُ شيبي موجعَ القلبِ باكيا’. ما زلت عاشقاً للقراءة وموسيقى باخ وغناء فيروز. من النادر ان اشاهد التلفزيون او اجلس في المقاهي والبارات والمراقص. ربما ذلك نتاج المرض والعجز عن الاستمتاع بسبب تقدم السن. ما اتمناه هو المغادرة بسلام حين اكون غاطساً في نوم مريح وعميق. لا اريد معارك او مساومات خاسرة مع أمراض اقوى مني. صَدَقَ المتنبي حين قال: ‘نَحنُ بنُو الموَتَى فَما بالُنا نَعافُ ما لابُدَّ من شُربِهِ / يَمُوتُ رَاعي الضّأنِ في جَهْلِهِ مِيتَةَ جَالِينُوسَ في طِبّهِ’. ها هي في المرآة ابتسامتي كأنها تجعيدة في قماش اصفر رث . كتفان محدبتان، عظم ترقوة بارز، عضلات ضامرة، توازن مختل، قلب مشوش. اما الذاكرة فقد ضعفت، لكنها تفتقد الأصدقاء والأقارب الذين ماتوا والذين مازالوا يعيشون مبعثرين في كل اركان العالم . يعجبني أن اكون محاطاً بصديقين وفيين فقط او ثلاثة، لأتمكن من رعايتهم كما ينبغي. لا استسيغ الوداع. ترعرعتُ في احضان الحزب الشيوعي ذي التاريخ المجيد (قبل ان يتورط بالتعاون مع غُزاة الوطن). لكني احترسُ من الشيوعيين. هم ‘يرحبون’ بالاستماع لوجهات النظر الأخرى، وينزعجون جداً إذا استمعوا اليها، فيطلقون عندئذ شتى الأراجيف والأقاويل التي تحصَّنتُ ضدها بقول شكسبير ‘ان الحياة اقصر من ان نضيعها بالاصغاء الى ما يقول الأخرون عنا’. اكره البخلاء، لأنهم يخترقونك كديدان التفاح، ويتكرمون بأموال الغير. اود المثقفين الخجولين الذين لا يحسنون التحدث، كما اود الذين يبرعون في استخدام عبارات تجمع بين الظُرف والبراءة. كانت عيناي تلمعان حين ارى فتاة حلوة تتقن إلقاء النكات والهذر. الآن، وقد كثرت مراجعاتي للاطباء، صرت اشعر بالملل. يتنامى القلق من الاعتماد على لطف ورحمة الآخرين الذين اخشى من تخليهم عني فجأة، او بالتدريج. لذلك اقمع حاجتي للاعتراض او التذمر مهما فعلوا، واتفادى ارتكاب خطأ. كما ان هفوة لسانهم اصبحت تجرحني كثيراً. اتذكر تصريح احد الأعلاميين الشيوخ المرحين: ‘مشكلة كبار السن الذين يرغبون بالرحيل، هم الأطباء الشباب الذين يصرون على إبقائهم على قيد الحياة!’. الرحيل الهادئ سيكون ختاماً ابدياً لحياة مؤقتة عشتها بسعادة مع الصديقات والأصدقاء والأهل. قال ابو العتاهية: ‘إِنَّ الطَّبِيبِ بِطِّبِّهِ وَدَوَائِهِ لا يَسْتَطِيعُ دِفَاعَ مَقْدُورٍ أَتَى / مَا لِلطَّبِيبِ يَمُوتُ بِالدَّاءِ الَّذِي قَدْ كَانَ يُبْرِئُ مِثْلَهُ فِيمَا مَضَى / هَلَكَ الْمُدَاوَى وَالْمُدَاوِي وَالَّذِي جَلَبَ الدَّوَاء وَبَاعَهُ وَمَنِ اشْتَرَى’. اخذت انظر بلامبالاة للموت بعدما قرأت قول الفيلسوف الروماني سينيكا ‘اننا لا نبالي بعدم وجودنا قبل الولادة، فلماذا نبالي بما يلي الموت’. لكن الحلاج قال ‘مَنْ يعرف من اين جاء، يعرف الى اين يذهب’. وأنا لا اعرف حقاً من أين جئت والى أين ذاهب. أعربت عن هذا المعنى في نص قصير احتواه كتابي ‘كلام الحب والوجود والثورة’ : ‘متاعب فيلسوف’ في كلِّ خطوةٍ يطلبونَ جوازَ مرورٍ، ويسألونني: من اينَ انت قادمٌ ؟ الى اينَ انت ذاهبٌ ؟ ولا يصدقونني حين اجيبهم : لا ادري. حيرة الوجود هذه انعكست بسطوع في كتابات ماركيز وانسي الحاج اللذين صارعا المرض طويلاً، مع التقدم في السن، دون التخلي عن الحب ؛ ذلك المرض الوحيد، كما قال إرنست همنغواي، الذي يخشى المصاب به أن يشفى منه. اصبت بهذ المرض وشفيت للأسف، لكن تعلمت ان أحب كل الناس التزاماً بمنطق كازنتزاكي الشفاف والبسيط: احبب الأنسان لأنك هو. *اديب عراقي مقيم في لندن 16/5/2014 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |