جماليات التصوير الدرامي في مسلسل «الأيام» لطه حسين - كمال القاضي


مع بداية كل عام دراسي يتجدد عرض مسلسل «الأيام» المأخوذ عن قصة الدكتور طه حسين الذي سجل فيها وقائع حياته ومشواره من الطفولة المُعذبة إلى درجات الارتقاء العلمي بكل مستوياته ومُعجزاته، ووفق الإبداع الروائي الذي كتبه صاحب السيرة والمسيرة والبصيرة، كان الإبداع الموازي في التصوير الدرامي الذي جسّد حياة الأديب ومشواره بدقة نمت عن مواهب جميع المشاركين في العمل الفني الكبير، حسب كل تخصص، فمن بداية الصياغة المُحكمة للسيناريو والحوار لأمينة الصاوي، والإخراج المُتقن ليحيى العلمي، والرؤية التصويرية الناطقة لموسيقى عمار الشريعي تجلت آيات التميز والتأثير البالغين فانجذب الجمهور للحكاية من البداية للنهاية.

ولأن ما كتبه عميد الأدب العربي عن نفسه وأيامه كان ثرياً على المستوى الإنساني، وغنياً بالتفاصيل والمواقف والصور التسجيلية لأدق الدقائق في حياته الشقية الشجية، فإن الاستلهام الدرامي جاء سهلاً وسلساً وطيعاً، حيث تم نظم السيرة في سياق مُتصل عبر كتابة واعية، وإحاطة ذكية بكل ما يتعلق بالشخصية، صفاتها وسماتها وعمقها، وبالقطع كانت مرحلة الطفولة التي جسدها الطفل الموهوب شريف صلاح الدين، قبل نحو ثلاثين عاماً هي بؤرة الضوء القوية في الأحداث، إذ استطاع المخرج الراحل الكبير يحيى العلمي، أن يصنع من الطفل شريف مُمثلاً بارعاً في التقمص والأداء، ليكون دوره عنواناً للشخصية في أصعب مراحلها الحياتية، إبان فقدانه البصر.

الفنانة أمينة رزق – الفنان يحيى شاهين

وقد نجح العلمي فعلياً في جعل المرحلة الأولى من سيرة طه حسين بادرة تألق حقيقي ومُبهر في عملية التصوير الدرامي الواقعي، وبناءً على ما تقدم من مُعطيات أولية في عملية البناء الإبداعي والتكوين العام للأحداث والشخصيات جاءت بقية الحلقات والمحطات مُتناغمة مع الجو العام للمسلسل الذي مرّ بمراحل تحول عديدة أفضت إلى تميز واضح في القيمة والجوهر، ولا شك في أن الألحان التي صاغها عمار الشريعي في الأغنيات المُصاحبة للمشاهد التراجيدية بصوت مؤثر وأداء فارق للمطرب علي الحجار، كانت إضافة مهمة لتعميق الإحساس بظروف الشخصية الأسطورية، ومدارات تحركها داخل دوائر كثيرة اتسمت جميعها بالصعوبة المُتناهية، فالبطل مكفوف وطموح ومُولع بالعلم إلى حد التفاني، وفي الوقت نفسه مغلول اليد ومسجون داخل واقعه البيئي والاجتماعي، لا يملك إلا سلاح التمرد على العاهة والتقاليد، ونمطية الحياة الرتيبة الكئيبة المُعتمة.

على جانب آخر جاء التعزيز القوي للمسلسل مُتمثلاً في وجود الفنان الراحل أحمد زكي، مُجسداً لشخصية طه حسين في مرحلة شبابه وبداية اشتباكه مع الحياة العلمية، إبان التحاقه بالأزهر الشريف كأحد طلابه النابهين النابغين، لكنه لم يستمر في الدراسة لحين حصوله على شهادة العالمية، ليُحقق حُلم أبيه في أن يصير صاحب عمود في الأزهر، يتلقى عنه تلاميذه العلم كسائر الأساتذة والمشايخ، فقد اعتزل طه حسين الأزهر وتوجه إلى الجامعة الأهلية، بعد أن ضاق به أساتذته وضاق بهم نتيجة جداله وتعصبه لرأيه وتمسكه بوجهة نظره الخارجة عن الإطار التقليدي المُتبع.

وفي هذا الخصوص برع أحمد زكي في التعبير عن صفات وخصال البطل العنيد بكل ما أوتي من موهبة في قدرته على الإيحاء بسكنات وحركات ونظرات ولغة طه حسين الفصيحة، بغير تعثر أو تلكؤ أو استسهال، كأنه النسخة الأخرى لعميد الأدب العربي بقامته وهامته وزيه وهيبته ووقاره، معايشة كاملة للشخصية بكل أبعادها النفسية والإنسانية تفوق من خلالها أحمد زكي على نفسه في فترة مُبكرة من مشواره الإبداعي القصير.

وعلى المستوى ذاته كان الحضور القوي المُقنع ليحيى شاهين في دور الشيخ حسين والد طه، حيث التماثل في الرزانة وقوة الشخصية والحلم والعقلانية والحكمة، بينه وبين الشخصية الأصلية، فلم يفلت الخيط من بين يديه، إذ اضطلع بأداء دوره التمثيلي بكل مهارة، مُستنداً لخبراته الطويلة ومخزون موهبته الربانية الصادقة.

وكذلك أمينة رزق لعبت دور الأم القلقة على ابنها الضرير بإتقان ليس غريباً عليها، وبجانبها كان الدور البارز لشيخ الكُتاب علي الشريف، لبنة قوية في بناء العمل الدرامي المتين، فقد اقتسم التميز بينه وبين عبد السلام محمد الذي أدى هو أيضاً دور العريف النائب عن شيخ الكُتاب في تعليم أطفال القرية مبادئ الكتابة والقراءة وحفظ القرآن الكريم.

وفي الحلقات الأخرى من المسلسل، التي تطرح أحداث الصعود والترقي لدى طه حسين في الجامعة الأهلية في القاهرة والجامعة الفرنسية، كانت المباراة مُمتعة في التمثيل وحُسن الأداء بين محمود المليجي وحمدي غيث وصفية العمري، وبقية الممثلين المساعدين الذين تم اختيارهم بعناية ليكونوا شركاء في تجسيد وتصوير رائعة الكاتب والمُفكر الكبير طه حسين، ليظل العمل الفني الفارق وثيقة مهمة للأجيال في كل المراحل والعصور.

‏كاتب مصري
عن القدس العربي
14/11/2021






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com