include ('Up_.php'); ?>
سجّل أنا عربي| عبد الرزاق دحنون - عبد الرزاق دحنون
جاءت قصيدة محمود درويش “بطاقة هوية” واسمها الشائع عند الجماهير الغفيرة “سجّل أنا عربي” في نهاية ديوانه الأول “أوراق الزيتون” الصادر عام 1964 وكان للشاعر من العمر أزيد من عشرين عامًا بسنتين. وجاء الديوان في ستة وعشرين قصيدة يقول في القصيدة الأولى:
الزنبقات السود في قلبي
وفي شفتي اللهبْ
من أي غابٍ جئتني
يا كلَّ صلبان الغضبْ؟
بايعتُ أحزاني
وصافحتُ التشرد والسّغبْ
غضبٌ يدي
غضبٌ فمي
ودماءُ أوردتي عصيرٌ من غضبْ
يا قارئي لا ترجُ مني الهمسَ
لا ترجُ الطربْ
هذا عذابي
ضربةٌ في الرمل طائشة
وأُخرى في السُّحُبْ
حسبي أني غاضبٌ
والنار أولها غَضَبْ
في عام صدور ديوان محمود درويش الأوّل كان غسّان كنفاني يُحرر في مجلة “فلسطين” الأسبوعية في بيروت، وفي هذه الفترة التقى بإحدى الصحفيات الأجنبيات وطلب منها الذهاب إلى فلسطين وأعطاها عناوين بيوت أهله وأقاربه وبعض أصحابه. ومن هناك أرسلت له صورًا وصحفًا عربية وإسرائيلية من داخل الأرض المحتلة إلى بيروت. تعرَّف من هذه الصحف على شعراء الأرض المحتلة، وفي أحد أعداد مجلة “فلسطين” وضع بخط يده قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش ”سجّل أنا عربي” على غلاف المجلة.
وكان فيها الشطر الذي حذفه محمود درويش من متن القصيدة ولم يضع له بديلًا في طبعات الديوان التالية وبقي مكان الشطر المحذوف فارغًا حتى وفاة الشاعر في التاسع من أغسطس عام 2008 في هيوستن، تكساس، الولايات المتحدة على أثر عملية لتصحيح عمل الشريان الأبهر.
أنا من قريةٍ عزلاءَ منسيّهْ
شوارعُها بلا أسماء
وكلُّ رجالها في الحقلِ والمحجرْ
…
فهل تغضبْ؟
كلمتان محذوفتان من قصيدة محمود درويش هما “يحبون الشيوعيَّة” وبدونهما لا يكتمل المعنى ويصبح معنى المقطع من هذه القصيدة ناقصًا، أو قُل بلا معنى، بل وايقاع المقطع يمسي مكسورًا. والسؤال الذي يحتاج إلى جواب، هل ترك محمود درويش رجال قريته في الحقل والمصنع بدون انتماء سياسي فيما بعد، وبالتالي ترك الشيوعيَّة هو الآخر حين نضج؟ لعلّها واحدة من مفارقات الزمان أن يحصل شاعر شيوعي تشيلي هو بابلو نيرودا على جائزة نوبل في الأدب عام 1971 وأن يكون شاعر تركيا العظيم شيوعيًا حتى وفاته، اقرأ لنا قصيدة يا ناظم حكمت، قرأ:
أنا شيوعي
أنا الحب من رأسي حتى أخمص قدمي
والحب أن ترى، تفهم، تفكر
الحب طفل يولد في الفجر الأحمر الذي ينبلج
الحب أرجوحة معلقة بين نجمتين
الحب يسقي حديد سواعد الكادحين العالية
أنا شيوعي
من رأسي حتى أخمص قدمي
من وجهة نظري الشخصية لا أظنُّ بأن محمود درويش ترك حلم الشباب الذي ينبثق في الفجر الأحمر لأن شيوعيَّة محمود درويش كانت وجدانية، رقيقة، مهذبة، لا تمت إلى عقيدة الأحزاب الشيوعية الجافية الغليظة بصلة وتشبه-على ما أحسب- شيوعيَّة أو مشاعيَّة رفيقنا عروة بن الورد في قوله المشهور:
إني امرؤ عافي إنائي شركة
وأنتَ امرؤ عافي إنائِكَ واحدُ
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى
بوجهي شحوبَ الحقِّ، والحقُّ جاهد
أُقسّمُ جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد
محمود درويش أحد أهم الشعراء العرب المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن المسلوب، إنه شاعر أمة، أمسك ناصية القول الشعري، والذي يجمع على جودته خلق كثير، وتطرب لوقعه أفئدة الملايين من البشر.
يطل علينا من قمة التعبير الشعري المدهش، وليس بيننا وبينه سوى مسافة الاستجابة لهذا السحر. وبعض العرب لا يُحب شعر محمود درويش إلى يومنا هذا-أصلحهم الله- ومن أهل فلسطين من لا يحب شعره ولا سيرته أيضًا.
محمود درويش هو الابن الثاني لعائلة تتكون من خمسة أبناء وثلاث بنات، ولد عام 1942 في قرية البروة قرب عكا على الساحل الفلسطيني من البحر الأبيض المتوسط، وفي عام 1948 لجأ إلى لبنان وهو في السابعة من عمره وبقي هناك لمدة عام واحد، عاد بعدها متسللًا إلى فلسطين وبقي في قرية دير الأسد شمال بلدة مجد كروم في الجليل لفترة قصيرة، استقر بعدها في قرية الجديدة شمال غرب قريته الأم البروة. أكمل تعليمه الابتدائي بعد عودته من لبنان في مدرسة دير الأسد وهي قرية عربية فلسطينية تقع في الجليل الأعلى متخفيًا، فقد كان يخشى أن يتعرّض للنفي من جديد إذا كشفت السلطات الإسرائيلية أمر تسلله، وعاش تلك الفترة محرومًا من الجنسية، أما تعليمه الثانوي فتلقاه في قرية كفر ياسيف.
انضم محمود درويش إلى الحزب الشيوعي في فلسطين، وبعد إنهائه تعليمه الثانوي، كانت حياته عبارة عن كتابة الشعر والمقالات في الجرائد مثل “الاتحاد” والمجلات مثل “الجديد” التي أصبح فيما بعد مشرفًا على تحريرها، وكلاهما تابعتان للحزب الشيوعي، كما اشترك في تحرير جريدة الفجر.
لم يسلم من مضايقات الاحتلال، حيث اعتقل أكثر من مرّة منذ العام 1961 بتهم تتعلق بأقواله ونشاطاته السياسية، حتى عام 1972 حيث نزح إلى مصر وانتقل بعدها إلى لبنان حيث عمل في مؤسسات النشر والدراسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقد استقال محمود درويش من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير احتجاجًا على اتفاق أوسلو. شغل منصب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين ورئيس تحرير مجلة الكرمل، وأقام في باريس قبل عودته إلى وطنه حيث أنه دخل إلى فلسطين المحتلة بتصريح لزيارة أمه، وفي فترة وجوده هناك حصل على تصريح يسمح له بالبقاء في وطنه.
ويعتبر درويش أحد أبرز من ساهم بتطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرمزية فيه. في شعر درويش يمتزج الحب بالوطن بالحبيبة الأم الأرض الأنثى.
**
//بطاقة هوية
سجِّل
أنا عربي
ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ
وأطفالي ثمانيةٌ
وتاسعهُم سيأتي بعدَ صيفْ
فهلْ تغضبْ؟
سجِّلْ
أنا عربي
وأعملُ مع رفاقِ الكدحِ في محجرْ
وأطفالي ثمانيةٌ
أسلُّ لهمْ رغيفَ الخبزِ،
والأثوابَ والدفترْ
من الصخرِ
ولا أتوسَّلُ الصدقاتِ من بابِكْ
ولا أصغرْ
أمامَ بلاطِ أعتابكْ
فهل تغضب؟
سجل
أنا عربي
أنا اسمٌ بلا لقبِ
صبورٌ في بلادٍ كلُّ ما فيها
يعيشُ بفورةِ الغضبِ
جذوري
قبلَ ميلادِ الزمانِ رستْ
وقبلَ تفتّحِ الحقبِ
وقبلَ السّروِ والزيتونِ
وقبلَ ترعرعِ العشبِ
أبي من أسرةِ المحراثِ
لا من سادةٍ نجبِ
وجدّي كانَ فلاحًا
بلا حسبٍ ولا نسبِ
يعلّمني شموخَ الشمسِ قبلَ قراءةِ الكتبِ
وبيتي كوخُ ناطورٍ
منَ الأعوادِ والقصبِ
فهل ترضيكَ منزلتي؟
أنا اسمٌ بلا لقبِ
سجلْ
أنا عربي
ولونُ الشعرِ فحميٌّ
ولونُ العينِ بنيٌّ
وميزاتي
على رأسي عقالٌ فوقَ كوفيّه
وكفّي صلبةٌ كالصخرِ
تخمشُ من يلامسَها
وعنواني
أنا من قريةٍ عزلاءَ منسيّهْ
شوارعُها بلا أسماء
وكلُّ رجالها في الحقلِ والمحجرْ
يُحبون الشيوعية
فهل تغضبْ؟
سجِّل
أنا عربي
سلبتَ كرومَ أجدادي
وأرضًا كنتُ أفلحُها
أنا وجميعُ أولادي
ولم تتركْ لنا ولكلِّ أحفادي
سوى هذي الصخورِ
فهل ستأخذُها
حكومتكمْ كما قيلا؟
إذنْ
سجِّل برأسِ الصفحةِ الأولى
أنا لا أكرهُ الناسَ
ولا أسطو على أحدٍ
ولكنّي إذا ما جعتُ
آكلُ لحمَ مغتصبي
حذارِ، حذارِ، من جوعي
ومن غضبي.
الصورة: حيفا - في منتصف عام 1965؛ صورة الرّفاق العاملين في صحيفة الاتحاد والمطبعة في بستان الشّيوعيّة أمام مكاتب الاتحاد. من اليمين إلى اليسار: سالم جبران، جورج طوبي، يوسف صبّاغ، متيا نصار، محمود درويش، حنا سمعان ونبيل عويضة (عن موقع الكاتب وجيه سمعان)
عن الاتحاد
24/9/2021
include ('facebookshare.php'); ?>
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com
|