عودة الى أدب وفن

الجرمق يموت واقفًا | علي قادري - علي قادري


يحمل رحيل القائد الوطنيّ والإنسان الشّيوعيّ الأمميّ المناضل محمد نفّاع رمزيّة لرحيل ونهاية مرحلة سياسيّة وتاريخيّة هامّة في تاريخ نضال الجماهير الفلسطينيّة في إسرائيل. محمد نفّاع الذي استطاع أن يصوغ خطاب الحزب الشّيوعيّ في إسرائيل بعد الانتفاضة الثانية وأن يشذّب مفاهيم الخطاب القوميّ الوطنيّ في علاقته مع الطّبقيّ والمدنيّ في مرحلة معتمة من تاريخ شعبنا الفلسطيني بعد رحيل الكبار، ومن خلال إشغاله منصب أمين عام الحزب الشّيوعيّ في تلك الفترة من التّجاذبات والاستقطاب الدّاخليّ، مثّل أبو هشام التّيار الشّيوعيّ الجامع والأصيل والذي غلّب الرّؤيا الماركسيّة والمدفوعة بحسّ المقهورين قوميًّا ليشكّل مفردات العمل السّياسي في مواجهة الاحتلال وفي العلاقة مع المحيط العربيّ والفضاء القوميّ في لحظة انطلاق شرارة الرّبيع العربيّ، وإن اختلف معه في التّحليل والقراءة كثر من داخل وخارج الحزب.

إنّ الاختلاف الفكريّ والعقائديّ مع أبي هشام لا يمكن له أن ينسحب إلى الدّوائر الشّخصيّة، لأنّ من يعرف الرّجل لا يمكن إلاّ أن يشهد له باستقامته ونظافة يده وحريّة ضميره ووفائه لخطّه السّياسيّ وانتمائه العميق للشّعب الفلسطينيّ وللعروبة. مَن لا يعرف محمد نفّاع السّياسيّ والأديب لا يمكنه أن يفهم حجم الانزلاق والتّفسّخ الاجتماعيّ والسياسيّ الذي نشهده اليوم في المشهد السياسيّ "المستحدث"، لأنّ درب محمد نفّاع الثّوريّة هي درب الكرامة الوطنيّة بالأساس، وإن بدت اللّفظة اليوم مشحونة بالشّعاراتيّة، ولكنّ تلك الدّرب التي سار فيها محمد نفّاع ورفاقه هي درب طويلة شائكة، محصّنة ومدرّعة بالعزّة والنّقاء الثّوريّ، وفي هذا المضمار حديث طويل.

استطاع محمد نفّاع القاصّ والرّوائيّ والأديب أن يصوغ مفردات الرّيف الفلسطينيّ، بمختلف تجليّاته الماديّة والمعنويّة، وربّما يعود ذلك لالتصاق الرّجل بمنشئه الفلاحيّ، في بيت جنّ الشامخة، شكّل الرّيف في أدب محمد نفّاع خطًّا زمنيًّا وتزامنيًّا شاهدًا على الماضي والتاريخ وماتحًا هذه المادة من عمقها الحضاريّ إلى راهنها المشوب والمحفوف بالطّمس والتجهيل ومحاولات الشّطب والمحو من الذّاكرة وتذويب وهج الحضارة الزّراعيّة والتراثيّة، فكان بإمكان الباحث والدّارس أن يرى في أدب نفّاع مجمل التّراث النّباتيّ والزّراعيّ، الأشجار، الأراضي، المواقع والأمكنة، التّاريخ الشّفويّ، المواسم والفصول، البهائم وأعشاش الحمام، كنوز معرفيّة آيلة للزّوال والاندثار. محمّد نفّاع صاحب "فاطمة" و "التّفّاحة النّهريّة" ومئات القصص وعشرات الرّوايات، وآلاف المقالات السياسيّة، لا يضيق بأدبه وينغلق، بل يرحب إلى الفضاءات الكونيّة والإنسانيّة، فلا يضيّق واسعًا، يكتب عن النّكبة واللجوء من عمقها الإنسانيّ، لتتحوّل قصّته إلى قصّة من الأدب العالميّ، ويصير بهذا ابن بيت جن كاتبًا عالميًا ينازع كبار الكتّاب العالميّين بالقدرة على التّصوير وتبئير التّراث، كما قال البروفسور إبراهيم طه عن أدب محمد نفّاع العالميّ.

الجزئية الأكثر إرباكًا في شخصيّة أبي هشام، وإن كانت تحمل بُعدًا شخصيًّا هويّاتيًّا، إلاّ أنّ له فيها سيرة عظيمة، فقد كان وعي محمد نفّاع الوطنيّ سريع التّشكّل منذ شبابه الباكر، كان من أوائل الرّافضين للخدمة العسكريّة الإلزاميّة، بسبب انتمائه المعروفيّ الأصيل، ولما تعرّضت له الطائفة المعروفيّة من مؤامرة في فرض الخدمة العسكريّة على أبنائها، شكّل وعي أبي هشام الوطنيّ والعروبيّ خلاصًا فرديًّا له من سطوة وهيمنة الخطاب الطائفي البغيض ومن سطوة السّلطة الأمنيّة على الشّباب المعروفيّين، سرعان ما تتوّج هذا الخلاص الفرديّ بانضمامه للحزب الشّيوعيّ وقام مع رفاقه بتأسيس لجنة المبادرة الدّرزيّة، والتي صارعت في تلك الحقبة على مستوييْن اثنين؛ الاجتماعيّ والسياسيّ، واستطاع أبو هشام بمثابرة وعزيمة كسر التابوهات، والتي انعكست كذلك بأسرته الكريمة، بالزّوجة الثّائرة أم هشام والأبناء كذلك. في محاولات حثيثة وكبيرة بتحويل الخلاص الفرديّ إلى خلاص جماعيّ لفئة أصيلة من فئات شعبنا العربيّ الفلسطينيّ.

اقتران حياة هذا الأديب والإنسان القائد باليوميّ والإجرائيّ ربّما قد يجعل أهل البحث والتّخصّص يظنّون أنّه قد شكّل عائقًا أمام تفرّد أدبه نحو العربيّ الأمميّ، ولكنّه كان يقول باستمرار، إنّ هذا الالتصاق والاقتران باليوميّ والنّضاليّ والميدانيّ هو نقطة له لا عليه، فمَن مِن رفاق الشّبيبة الشّيوعيّة لم يصل إلى ناديهم الرّفيق محمّد نفّاع لإلقاء محاضرة أو للمشاركة بندوة أو لاجتماع تنظيميّ، وفي كثير من الأحيان سيرًا على الأقدام مسافة كيلومترات عديدة.

في العام 2006 عقدت الدائرة الطّلابيّة للحزب الشّيوعيّ أيّامًا تنظيميّة وفكريّة لناشطي الجبهات الطّلابيّة، وقد كانت اللقاءات على أراضي قرية السّموعيّ المهجّرة "كفار شمّاي اليوم"، والغريب أنّه عند دخولنا بالحافلة أراضي السّموعيّ شاهدنا الرّفيق أبا هشام ماشيًا على قدميه، حاملاً حقيبته السّوداء تحت إبطه وبيده السيجارة العربيّة، ركنت الحافلة جانبًا حتّى يصعد، ولكنّه رفض الصعود للحافلة وأكملنا كيلومترات إضافيّة وهو لحق بنا سيرًا على قدميه. أنا على يقين أن مئات الرّفاق لهم قصص وطرائف معه في محاولات حثيثة لإيصاله إلى بيت جن، ورفضه النّبيل وتذرعّه بأنّ لديه عملاً إضافيًّا في الرّامة ليتمّمه..

من نافل القول أنّ سنديانتنا الشّيوعيّة العالية الموسومة بالمبدئيّة المطلقة الخالصة بإجماع القاصي والدّانيّ، الصّديق والعدوّ، الخصوم والأصدقاء، من اهالي بيت جن والمنطقة وفي الداخل الفلسطينيّ هي قيم محمد نفّاع ورفاقه من الرّعيل المضحّي والمتفاني.

ستبقى ذكراك خالدة في قلوبنا أبا هشام. ولنا حديث طويل على صفحات الاتّحاد عن أدبك وروايتك وسيرتك النّضاليّة.

عن الاتحاد
19/7/2021




عودة الى أدب وفن



® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com