include ('Up_.php'); ?>
حفريات نشأة المسرح في مصر: أبعاد الجدال وحصاد التجربة - مصطفى عطية جمعة
بدأت الإرهاصات الأولى للمسرح في مصر مع نهاية القرن التاسع عشر، بعدما استقر المسرح بوصفه فنا في المشرق العربي، فبدأت النصوص المسرحية العربية في مصر، بنص «صدق الإخاء» لإسماعيل عاصم، عام 1894، ويدور حول تبصير الأغنياء بمضار الترف وتبديد الثروات، كما تدعو إلى الحرية والتعليم، ووحدة المصريين، لمواجهة طمع الغريب في أراضيهم. فكانت البشير الأول لتأسيس نصوص مسرحية عربية، ذات توجه اجتماعي، وإن اتخذت شكلا فنيا يجمع بين المقامة والمسرحية. وقد قدّمت هذه المسرحية في تونس الخضراء، وتفاعل معها الجمهور كثيرا، وتكونت حولها حركة مسرحية بين تونس ومصر، مع فرقة القرداحي التونسية.
ثم ظهر يعقوب صنوع (1839 ـ 1912) الذي تلقى مرانه المسرحي من خلال عمله مع فرقتين أوروبيتين (فرنسية وإيطالية) زارتا مصر عام 1870، وقدمتا مسرحيات الكوميديا والأوبريت، وتعرف من خلالهما على النصوص في لغتها الأصلية مثل موليير وشيريدان، ثم كون فرقته الخاصة وألّف لها مسرحا غنائيا، مع بعض الأغاني الشعبية، ومن ثم راح يضع المسرحيات ويدرب عليها الممثلين ويقوم بإخراجها وإدارتها على المسرح، حتى وصل عددها إلى اثنتين وثلاثين مسرحية، أغلبها تصوير للواقع الاجتماعي، الذي كانت تعيشه مصر أيامه، مع انتقاد مظاهر التخلف والمظالم الاجتماعية، وقد اجتذب جمهورا كبيرا، لاعتماده الضحك، مع مناقشة الهموم والمشكلات الاجتماعية، وبراعته في تقديم شخصية الفلاح المصري، واندماجه في أدائها، فهو متميز في أداء الشخصيات المهمشة والباهتة والضعيفة والمظلومة، وإن كان يعاب عليه استخدامه النكات الجنسية واللفظية الفجة، فاختلط معه التهريج والأفكار، وامتزج امتزاجا عضويا بفن المسرح.
وإن كان هناك من الباحثين من يشكك في كون صنوع رائدا للمسرح المصري، على نحو ما نجد في كتاب «محاكمة مسرح يعقوب صنوع» لسيد علي إسماعيل؛ مستدلا على ذلك بالبحث في الصحف والمجلات والنشرات الصادرة في نهاية القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، فلا توجد أي إشارة له من عام 1870 إلى عام 1911، وأن رائد المسرح المصري هو محمد عثمان جلال، الذي كتب مسرحيات بالعربية والعامية عامي 1870، 1871، وتبعه سليم خليل النقاش اللبناني، الذي كون فرقة مسرحية قدمت أعمالها منذ عام 1876، وتحدثت الصحف عن ريادة النقاش للمسرح في مصر، ولم تشر إلى دور صنوع، الذي ينتمي إلى أسرة يهودية، وكان صحافيا شهيرا في مصر، حمل لقب «أبو نظارة «، وأصدر العديد من الصحف الفكاهية، وإن كل ما قيل عن مسرح صنوع كان مصدره مذكراته الشخصية، التي تم التلاعب بها لاحقا بالحذف والزيادة، وكذلك مجاملات أصدقائه من الصحافيين الأجانب والمصريين له. أما ما ينسب إلى صنوع من مسرحيات ولعبات تياترية فهي ليست من تأليفه، ويحيط بها شك كبير، وإن كل ما صدر من صنوع عن كونه مؤسسا للمسرح في مصر؛ كان مبالغا فيه، وتم بعد هجرته إلى فرنسا، ورغبته في المفاخرة بأنه رائد المسرح في مصر، مع الجزم بأنه كان كاتبا صحافيا بامتياز، وله صداقات مع أمراء من الأسرة الحاكمة، والثابت أن له علاقة وثيقة بالمحافل الماسونية، التي انتشرت في مصر، ودعمت هجرة اليهود إلى فلسطين، وإقامة وطن قومي لهم، والتعاطف معهم إنسانيا، وفي سبيل ذلك أراد المفاخرة بأنه كيهودي رائد للتحديث والفنون والتقدم في مصر، وأن أول من كتب عن صنوع كتابا هو إبراهيم عبده، الذي اعتمد على وثائق من ابنة صنوع لولى، وكان عبده قد سافر لباريس للحصول على هذه الوثائق منها.
وبغض النظر عما أثير عن صنوع، رغم أهميته التاريخية، إلا أنه من الثابت أن البدايات الأولى لنشأة المسرح العربي، سواء كان في مصر- أو في الشام – تشير إلى أنه بدأ في المدن والعواصم ذات الاتصال المباشر بالغرب، بحكم وجود الأجانب من جهة، ووجود فرق مسرحية أجنبية من جهة أخرى، ومع ذلك، نشأ المسرح العربي بشكله الأوروبي، ساعيا إلى ترسيخ ذاته ثقافيا وفي الذائقة العربية، وهو ما جذب الكثير من الجمهور إليه. وقد عملوا على تحقيق نوع من المواءمة بين هذا الفن الدخيل، وما اعتبر مميزات الذوق العربي، من خلال إدخال تعديلات على هذا الفن تبعده، في كثير من الأحيان، عن نتاجاته التي ستتلاءم، مع ميول الجماهير العربية وأذواقها، وقد حملت معها سلبيات البدايات، حيث الاقتباس دون توثيق، وفوضى الكتابة النصية، والرغبة في تسلية الجمهور بالغناء والموسيقى، على حساب النص، كما مالت إلى تقديم هموم الجمهور وقضاياه الاجتماعية، مع الضحك والتسلية، فجذبت شريحة واسعة من الطبقة المتوسطة والفقيرة والمهمشة.
والمدهش في الأمر أن وجود المسرح بشكله الغربي لم يؤثر في أشكال السامر الشعبي، التي استمرت في القرى والمدن وحتى العواصم العربية، بما يعني وجود تيارين للفرجة المسرحية: الأول المسرح بشكله الأوروبي مع تغيير مضمونه ليتناسب مع الثقافة المحلية، والثاني: السامر الشعبي مثل خيال الظل والحاوي والقرداتي والمحبظية والحلقة، التي استمرت إلى عهد قريب، تمتع العامة والخاصة في المواسم المختلفة، متخذة من الشوارع والساحات وأفنية البيوت، مكانا لعروضها، فاستمرارها دليل على تعلق الناس بها، كما سافرت الفرق المسرحية إلى بلدان عربية في بلدان المشرق العربي ومغربه؛ لتقديم عروضها، ما ساهم في تكوين قبول جماهيري عربي لها.
* كاتب مصري
عن القدس العربي
28/6/2021
include ('facebookshare.php'); ?>
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com
|