عودة الى أدب وفن

جبران خليل جبران: نموذج الأسطورة الواقعية - قاسم حداد


جبران هو الأفق الذي هجست به كتابات جبران، ولم يتحقق عنده، أذكر أن أدونيس أشار إلى هذا، حيث تصدر أهمية جبران من الإبداع الذي أشارت إليه تجربة جبران خليل جبران الفنية، وليست مما حققه حتى وفاته.

بمعنى أن إنتاج جبران ـ على الصعيد النثري ـ لم يكن، إبداعياً إعجازياً يمكن أن يتحول إلى نموذج، إنه إشارات فحسب، هذه الإشارات التي تيسر لها أن تبدأ من الإنجاز على أيدي بعض الأدباء والشعراء الذين جاءوا لاحقاً بعد جبران. من هنا ينبغي أن نتعامل مع جبران كتجربة أدبية، ولا يجوز لنا أن نبالغ ونتطرف، كما يحدث عادة عندما يأتي الكلام عن جبران، فيصل الأمر إلى درجة اعتباره أسطورة أدبية، لأن التعامل الأسطوري مع الأديب يحوّله إلى شيء غير قابل للنقد والنقض.

عندما قرأنا جبران في بدايات تكويننا الأدبي كنا نحسبه الكاتب «الرومانسي» المتحرر أكثر من كونه «النص» الحديث، حتى أن لغته الفلسفية كانت لنا نفاذة للنفس الرومانسي، نستنبط منه الفكر المتحرّر، الذي كان يتمثل لنا في غير نافذة في الأدب العربي الحديث، دون أن نعتبر جبران عنصراً متفرداً في ذلك المشهد. وعلى الرغم من التنوع (الشكلاني) في تجربته، المزخرفة بالرسم، فهو لم يخرج عن تخوم الشعر بالمعنى الرومانسي للكتابة الشعرية. وهو ربما كان شاعراً في قصيدته وفي نثره، وفي الأنواع كافة التي طرقها، حتى أن مقالاته كانت تنضح باللغة الشعرية الغريبة عن الكتابة العربية، وتلك هي أهم ميزة لفتت أنظارنا إليه. وقتها كنا نتوقع أن يكون الأديب ثائراً، انسجاماً مع نزوعنا التمردي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وظني أن الفرق بيننا وبين جبران آنذاك أنه كان يتمسك بالثورة الباردة، إذا صح التعبير، حتى لنكاد نشعر في وقت من الأوقات بأنه لم يخرج عن حدود المُصلح، في ما كان المُصلح يختلف كثيراً عن الثوري، الذي كناه آنذاك.

كان جبران إنساناً عادياً، يحاول التعبير عن نفسه في غابة لم تهتم ابداً بالصوت المختلف الذي جاء به. وجبران نفسه لم يكن يهتم كثيراً باهتمام الناس، فقد اكتفى بأن يمارس تنسّكه الأدبي والفكري والفني على مبعدة من الضجيج العربي، لكنه أيضا ً لم ينج من الرأي الآخر، الرأي المحافظ الذي لم تعجبه الطريقة التي (يقول) بها جبران عن نفسه. ولأسباب كثيرة ظل جبران مجهولاً ومرصوداً للتجاهل من قبل الأدب السائد في وقته، وأيضاً لم يهتم جبران بذلك، فهو الميال إلى التنسك المسيحي، سيرى في المحبة ما يكفيه، واتصاله بما تكنّه له مي زيادة من الحب ما يغذي روحه. مي الأديبة العربية التي وجدت في الهامش الذي يسكنه جبران مكاناً مناسباً لعزلتها النفسية. وقد قيل قديماً أن لا كرامة لنبي في وطنه، فلم يكن جبران يجد كرامته الإنسانية والأدبية في غير بلده، وقتها، وإن كانت هجرته عاملاً مهماً من عوامل اشتهاره، عربياً وأمريكياً. وبما أن جبران لم يكن يحلم أن يكون أسطورة، كما أراد له العقل العربي، ولم يفكر في ذلك، غير أن الفلسفة التي توشَّحَ بها، في ما يكتب ويرسم، كانت تشي بأن هاجس التعبير عن ذاته كان هو ما يشغله في مجمل فعالياته. وهو الذي رسم وكتب في السياسة والمجتمع والمسرح والقصة، لكنه ظل في كل ذلك شاعراً يختلف.

ويمكن أن تتمثل أهمية أدب جبران في لغته الرومانسية الشفيفة، التي صارت مرجعاً يعود إليه كل من يريد أن يدعم رأياً يتصل بنزوع التجديد التعبيري.

كيف حدث ذلك، ولماذا؟

نحن غير معنيين بالأسطورة التي تسبغ على شخصية جبران الإنسانية، هذه مسألة غير قابلة للأخذ بجدية نقدية. إننا نريد أن تؤخذ الأمور بأحجامها الطبيعية، بعيداً عن المبالغات التي ساهمت في إفلات الطبيعة الحقيقة لجبران خليل جبران، وهي مسألة تحتاج إلى إعادة نظر نقدية، فليس جبران نابغة (إبداعياً) ولا هو كاتب عابر لا تتعثّر به النظرة التاريخية لتطور الكتابة العربية الحديثة. إنه كاتب عربي، أعطى نتاجاً أدبياً عادياً ومات، دون أن يحصل على التقدير المناسب في حياته. وهذا يحدث لكل أدباء العرب المبدعين وغيرهم.

ويحدث أيضاً أن يموت الأديب العربي، فتلهث الجموع إلى تحويل الأمر إلى معجزة. إن الاحتفالات والمهرجانات التي يحصل عليها جبران وأدبه، لن تضيف إلى حقيقة جبران وأدبه شيئاً مهماً أكثر مما ينطوي عليه هذا الأديب وأدبه. غير أن هجرة جبران وانبثاق صيته في إقامته الأمريكية، ساهم في صقل الالتفات العربي إليه، كما لو أنه كاتب من كوكب غريب. وأخشى أن عقدة «الخواجة» عند العقل العربي هي ما ساعد على بلورة صورة جبران في التاريخ المعاصر للأدب العربي، ظناً في أن الإقامة في الغرب في حد ذاتها قيمة أدبية تستوجب التقدير.

ترى هل آن الأوان للكفَّ عن الانخراط في هذه النظرة التقليدية في التعامل مع الأديب، في ما يحارب ويجوع ويطارد في حياته، ليتحول، بعد وفاته، إلى الأسطورة التي لا تُطال. ينبغي أن نتوقف كثيراً أمام هذا الأسلوب، لئلا نقلل من تجربة بدر شاكر السياب مثلاً، فربما كان السياب نموذجاً للشاعر الذي قتلته حياته. وعاش في عذاب لا يضاهيه عذاب الموت. ليتسابق بعد موته محاربوه إلى تكريمه. وربما كان للسياب ألا يموت باكراً، لو أن عناية لائقة حصل عليها في حياته، ولكان حصل على فرصة واحدة لكي يتمتع بإنسانيته بعيداً عن الاستلاب المتنوع. ولن يحتاج جبران لكل المهرجان التكريمية بعد ذلك. لقد كان يحتاج إلى نظرة إنسانية، تصير نموذجاً يحتذى للأديب العربي في البلاد العربية. فمن يستقرئ تجربة بدر شاكر السياب وجبران خليل جبران جيداً، يكتشف أنها تجربة تدعونا جميعاً إلى ضرورة احترام الأديب في حياته، الاحترام والتقدير النقديين الأنسب، وإعطائه فرصة التعبير والحياة بحرية تسعه وتسع أدبه/ فالحرية لا تنفع الانسان ميتاً.

– لكن لماذا هذا الانسياب وراء تحويل أمواتنا إلى أسطورة، والمبالغة في تقديسها؟

أعتقد أن هذا يتصل بتكوين نفسي للإنسان العربي الشرقي، الذي تربي على تقديس الأموات بعد قتلهم. هل نتذكر الحلاج والحسين بن علي، وغير ذلك من النماذج التي يزخر بها التاريخ العربي، مع الالتفات إلى اختلاف الظروف والملابسات التي قتل فيها كل من هذه النماذج، دون التقليل من جبران وتجربته الأدبية، وبدر شاكر السياب وحياته.

شاعر بحريني
عن القدس العربي
29/4/2021




عودة الى أدب وفن



® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com