|
عودة الى أدب وفن
ضرورات المصالحة - بروين حبيب
في حوار نشر مؤخرا مع الكاتب إبراهيم نصر الله قال أن لا مصالحة بين المال والإبداع. شارحا كلامه بقوله «المصالحة بين المال والإبداع أمر غير وارد، إلاّ في حالة واحدة، هو أن يكون المال مُؤْمِنا بقوّة الإبداع والفكر والتطور، وأن يصل إلى درجة القوة، بحيث يفرض فكرته هذه على الجانب الرسمي الذي لا يؤمن بها». كان واضحا أنّه يقصد أنظمة بعينها، جعلت من الثقافة مشروعا جانبيا لا يُعتَمد عليه في بناء دولة.
وقد فكّرت جليًّا في أبعاد طرحه، حتى إن جاء على هامش حوار تضمن أكثر من نقطة محورية متعلّقة بالشأن الثقافي وبأدبه، وبمؤسسات تعاطى معها عن قرب، إذ ندرك كما يدرك كثيرون أن المال هو الذي ينظم عالمنا اليوم، ولكنّه محور فاسد ـ إن صحت تسميته بذلك ـ لأنّه جعل البشرية تفقد الكثير من روحها الإنسانية لصالح حماية المصالح المادية. ثم جاء هذا الظرف التاريخي الحساس، الذي منح للأفكار قوة مؤقتة، إذ علت أصوات تنادي بتغيير الطريقة التي نرى بها الأمور، وأن النظام العالمي لم يعد محتملا، ووجب تغييره حتى نتمكن من العيش بسلام في بيتنا الكبير (الأرض). على مدى سنة خرج فلاسفة وكتّاب ومثقفون من مغاراتهم الخاصة للعلن، جنبا إلى جنب مع رجال العلم لتذكير الناس بقواعد الحياة السليمة، التي تقوم على الابتكار والإبداع لا على المال، والتي للأسف ضاعت منهم في خضم صراعهم الشرس للحصول على الثروة. غطّت أفكار إدغار موران على سبيل المثال الكثير من المنصات الإعلامية على المستوى العالمي منذ بدء الجائحة، وهو يشير إلى خلاص متوقع بسبب انتصار «القوى الإبداعية» مُذكِّرا بتجربته الحياتية الطويلة و«اعتياده» ـ كما قال ـ على أزمات مشابهة عبر التاريخ، جعلت الإنسان يتأقلم مع كل مجهول، بابتكار وسائل حمايته وإنقاذه. فهل بلغنا هذه المرحلة؟ حسب موران لكل أزمة خصائصها، كما يختلف الإنسان في تلقيها والتفاعل معها، فهناك أزمات تثير الخيال الإبداعي لدى البعض، وأخرى تثير المخاوف والتراجع العقلي عند البعض الآخر والذي يبحث فقط عن خلاص إلهي بدون أن يعرف كيف. لكن المؤكّد أنّ العيش على قناعة اليقين يحولنا إلى ماديين أكثر، لأنّه يجعلنا نعتقد باكتمال العالم، وثبات قواعده انطلاقا من معطيات الحاضر، وربما هذا يشرح حالنا ونحن ننام على جبال من المال مرتاحي البال، إلى أن يفاجئنا الطوفان فيجرفنا بقوة غير متوقعة، حينها فقط يتحول المال إلى قاعدة غير آمنة للخلاص، وسنتذكّر مجبرين سفينة نوح، أول عمل إبداعي تذكره الكتب المقدسة، وهو قائم على مبدأ الشكّ وليس اليقين، كون الغارقين لم يساورهم أدنى شك بحدوث طوفان مفاجئ، عكس النبي نوح، الذي تصرّف وفق شكوكه في احتمال حدوث ما أُوحِيَ به. لكن بعيدا عن المقدّس، وما قد يفرضه من تأويلات بعيدة في المعنى عن طرح اليوم، أحب أن أعود إلى فكرة إيمان المال بقوة الإبداع، وإلاّ فإن ما ينتظرنا مستقبل قاتم. فالذي يحدث أن الناس تفقد بوصلتها في الأزمات، لهذا وجب أن تكون الصفوف الأمامية لمواجهة الأزمة مكوّنة من الفئات الخلاّقة، والقوى الواعية وليس من الفئات الضعيفة التي تتشتت مع أول هبّة ريح. في الأساطير القديمة، وعند حلول مصيبة ما تضرب ابنة الملك أو عزيز عليه، وعادة ما تكون المرض، تبرز شخصية «الحكيم» الذي يعطي المشورة ويصف الدواء، وفي الغالب وأمام عجز الجميع عن إيجاد ذلك الدواء، يخرج المغامر الذي لا يؤمن بكل العوامل المحبطة، التي تثبّط من عزيمته واندفاعه نحو تحقيق المستحيل. وأنا اليوم أتساءل كيف تربينا على هذا النّوع من الأساطير، ولم نتعلّم منها أن لا شيء يظلُّ على حاله، وأن كل شيء ممكن ما دام العقل البشري يعمل؟ الأسطورة تخبرنا أن المغامر نجح في جلب البلسم الشافي، ولكنّه بالمقابل تلقّى مكافأة ثمينة، حين قرر الملك تزويجه ابنته، وهذا كاف لتحفيز المخيال البشري على أن المكافأة المادية ضرورية لكل مغامرة تغيير. يمكن تصوّر تأثيرات المكافأة المادية، وأبعادها التحفيزية، لإحداث تغييرات كبرى في أي مجتمع مهما كان بدائيا، كون الأسطورة جاءتنا من أزمنة سحيقة في الماضي، تقدس الانتصار والفوز، وهي بكل محمولاتها الثقافية ترمي إلى هدف واحد، وهو إنقاذ البشرية من الشرور المحدقة بها، بالحكمة والمثابرة على الإبداع والابتكار. لكن علينا أن نقف متأملين حالة الشعور بالسعادة، التي تنتاب الفائز أمام نفسه وأمام غيره، ما يذكرنا بما قاله الفيزيائي العبقري نيكولا تيسلا واصفا الإثارة التي تملأ قلب المخترع عندما ينجح بالمشاعر التي تجعل الشخص ينسى الطعام والنّوم والأصدقاء والحب وكل شيء. بلوغ ذروة السعادة، هل يمكن تخيُّل ذلك؟ لا شكّ في أن ذلك الشعور هو الذي جعل تيسلا يتخلّى عن مكاسبه المادية، رغم الإجحاف والظلم اللذين تعرضا لهما، إلاّ أن التاريخ يذكر أفضاله على البشرية أجمع، وقد أثبت بكل اختراع قدمه، أن عجلة الإبداع ستبقى واقفة إلى الأبد إن لم تُدفع بقوة المال. في مجتمعات كثيرة تشبه أغلب المجتمعات العربية يحفظ المال في خزائن بعيدة عن العبقرية الإبداعية، يرتعد أصحاب المال من أصحاب العقول، في اعتقاد غريب بأن أي استثمار لأموالهم في أفكار جديدة قد يفقرهم، مع جعل أفقر شعوب العالم يعيشون في دول يتربع على عرشها أثرياء يعدون على أصابع اليد الواحدة، ولا ندري بعد هذه الجائحة هل ستبقى هذه المعادلة سارية المفعول؟ أم أنها ستنهار بعد أن تغيرت أنظمة المال، وأصبحت تتوزّع وفق معطيات مغايرة لمعطيات ما قبل الجائحة. قد يسهل إدماج المبدع في منظومة مالية، شرط احترام طقوسه الإبداعية، لأن ميكانيزمات مضاعفة المال قد تسحق العقل المبدع، وقد تكون الخسارات أكبر من كل التوقعات. إن أهم انطلاقة نحو هذا الإدماج، بدون حدوث انتكاسات، هي الاقتناع بأن القدرة الإبداعية هي أهم عنصر من عناصر رأس المال البشري. القاعدة ببساطة هي الفكرة = المال. غير ذلك يصبح الخوض في هذا الموضوع مجرّد نقاش بيزنطي لا نهاية له. في كتاب ممتع للكاتب الأمريكي مارك رنكو أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا الرسمية، نقرأ بإسهاب في علاقة المال بالإبداع، الكتاب يحمل عنوان «الإبداع، نظرياته وموضوعاته، البحث والتطور والممارسة» نقله إلى العربية شفيق فلاح علاونة، ويحيط فيه بكل جوانب الإبداع وتطور التاريخ البشري وفق تطور الطاقات الإبداعية للمجتمعات وتشجيعها وتوارث النظام المعرفي مع الحرص على الحفاظ عليه من العوامل المدمّرة سواء خارجية كانت أو داخلية. يقودنا رنكو على مدى أربعمئة صفحة إلى خلاصة مهمة، تنبهنا أن ليس دائما أصحاب المال مقصّرين تجاه المبدع، فأحيانا نجد المبدع هو من يقللّ من قيمته، معتقدا أن وظيفته أقل أهمية من «المال» وهو ما نلمسه في واقعنا اليومي، فكون ارتباط الإبداع بالجمال لا بلقمة العيش، يجعل الحقائق تبدو غير واضحة، لكن في الحقيقة فإن الإبداع هو الذي جعل الإنسان يصنع الخبز، ويتفنن في جعل لقمة العيش طيبة. والأهم أنه يضعنا أمام حقيقة تغيب عنّا دائما وهي أن «اللغة أفضل مثال على الإبداع اليومي العادي» وبدونها لا يمكن للإنسان أن يتقدم خطوة واحدة نحو حياة بدون مخاوف. إنّه موضوع السّاعة في رأيي، خاصة أن المبدعين اليوم يقفون على الهامش، وينتظرون حلولا من المجهول، مع أن الظرف يستدعيهم بقوة. نعم إنّه عام الكساد المالي إلى أن تأتي الأفكار الخلاّقة لتبث الرّوح في كل شيء اعتقدناه ميتا. شاعرة وإعلامية من البحرين عن القدس العربي 24/1/2021 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |