عودة الى أدب وفن

رسائل ميخائيل نعيمة إلى ثريا حدّاد:هل هي «قصّة حب»… لم تكتمل ؟ - عبد اللطيف الوراري



رسائل ناسك الشخروب

اعتنى ميخائيل نعيمة بكتابة الرسائل، وارتفعت عنده إلى مصافّ الأدب الشخصي الرفيع الذي تتقاطع فيها شذراتٌ من سيرته وتأمُّلاته وآرائه ومواقفه التي تصبغها روحها المنطلقة والسمحة بصبغةٍ خاصّة. وقد تبادل مثل هذه الرسائل مع عدد لا يحصى من أدباء عصره وقرّائه وأقربائه في كُلّ البلاد العربية؛ من أمثال: جبران خليل جبران، وأخيه نسيب، ويحيى حقي، وعبد الكريم الأشتر، ومحمد الصباغ، وإسكندر اليازجي، بل تبادل غيرها باللغة الإنكليزية. وقد سبق له أن نشر بعض هذه الرسائل المتاحة ضمن المجلد الثامن من المجموعة الكاملة (دار العلم للملايين ـ بيروت 1973) وكتب في التصدير: «هذه الرسائل التي بين يديك تكاد تكون وشلا من بحر الرسائل العربية التي كتبتها في حياتي، والتي لو عادت جميعها إليّ لملأت أكثر من مجلّد». ولولا أن هذه الرسائل ـ في نظره ـ لا تُلقي بعض الأضواء على جوانب من حياته المادية والأدبية والفكرية والروحية، لما كانت حريّة بالنشر من قِبَله أو من غيره.

من نعيمة إلى ثريا: جسر مُعلّق !

في الرسائل التي تبادلها مع ثريّا حداد الأديبة الأردنية وأستاذة اللغة العربية في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية (1935 ـ 1996) والتي ظلّتْ مخطوطةً إلى اليوم، كان ميخائيل نعيمة في عقده السبعين؛ إذ وُقِّعَتْ على فترات متقّطعة بين عامي 1961 و1975، وبلغ مجموعها نحو ستّ وعشرين رسالة متفاوتة الحجم، وأكثرها كان ردًّا على رسائل أرسلتها إليه ثريّا، وهو في بسكنتا (قريته في قضاء المتن في لبنان) منقطعًا إلى عزلته وتأمّلاته ومشاريع كتبه في تلك الفترة من العمر.

راسلت ثريّا ميخائيل نعيمة، في بادئ الأمر، باعتبارها قارئةً شغفت بأخيلة فنّه، وارتوت من معين معرفته وعلمه، وسافرت مع أوراق كتبه «لما تنطوي عليه من معان وقيم إنسانية إزاء الأسلوب الجميل، والذوق السليم في اختيار الألفاظ والعبارات» على حدّ تعبيرها.

وقد ردّ عليها من موقع مسؤولية تجاه قرّائه وتجاه الكلمة التي اتّخذها وسيطًا بينه وبينهم، قائلا: «فأنا عندما أخاطب على صفحات مؤلفاتي أناساً لا أعرفهم ولا هم يعرفونني، لستُ أدري ماذا سيكون وقع هذه الكلمة أو تلك في نفس هذا القارئ، أو هاتيك القارئة، إلّا أنني أحرص أبدًا على أن تكون الكلمات المنزلقة عن قلمي مشحونة بالصدق، والإخلاص، والحقّ كما أفهم الحقّ. وإنّها لتعزيةٌ كبيرةٌ لي أن يجد الكثير من قرّائي بعض التعزية وبعض النور في ما أقدّمه لهم». ثُمّ راسلته ثانيةً وثالثةً، ومع كلّ رسالة يستشفُّ لَمْسة تقدير خاصّة، بل أتتْهُ منها هديّةٌ منتقاة بعنايةٍ قد انْتزعت إعجابه وتقديره وتقدير مَنْ في البيت: «ستحتلُّ هديتك مكانًا يليق بها في بيتي، وستبعث في نفسي، كُلّما نظرت إليها، أجمل التقدير لعواطفك النبيلة».

بيد أنّ العلاقة بينهما قد توطّدتْ بعد الرحلة التي قامت بها ثريا رفقة زميلتين لها من كلية راهبات الوردية الأهلية؛ علوية الصلاحي وبيا، من عمّان إلى لبنان في صيف 1961، التي دامت أحد عشر يومًا، حيث انْسحرت بجمال بسكنتا وطبيعتها الأخّاذة، وبربوع لبنان وأمكنته الجميلة (بيت الدين والباروك ونبع الصفاء وزحلة وصور وصيدا..) وحضرت مهرجان بعلبك، وزارت المطربة فيروز في منزلها الصيفي في بكفيا. وسنحت لها الفرصة أن تتعرّف على الأديب المنعزل عن قرب، والظفر بحوار معه لفائدة مجلة «دنيا المرأة» التي تنشط فيها، حين تَعذّر عليها ذلك في رسالة سابقة، واعتذر هو نفسه لها بلطافةٍ وأدب عن الإجابة على أسئلةٍ خطّيةٍ طالما وَرَد مثلها عليه من أمكنة كثيرة، وزاد: «فما من شكّ ـ كما كتب إليها – في أن الكلمة التي يلقيها الصوت الحيّ في الأذن الحيّة هي غير الكلمة التي يخطُّها القلم على القرطاس».

زارته في (صومعته) وخلب لُبَّها «منزل واسع جميل قائم بكبرياء، يطلّ على منازل بسكنتا» وشدّها إليه «إنسان بشكله وحديثه، إنسان بأفكاره وتفكيره» فيما هي تحاوره في مواضيع وآراء متنوّعة عن طقوسه للكتابة والتأمّل، ومؤلّفاته، وارتباطه ببلدته بسكنتا التي لا يمكن أن يفارقها، وفلسطين مهد آماله ومرتع حداثته، وجبران صديقه الحميم الذي له اعتبارٌ خاصّ عنده. وعن النهضة الأدبية النسائية، وأسفه لانحدار بعض الأديبات إلى المستوى الرخيص، وعن الشعر الحديث وضرورة «التمسُّك بالوزن واللغة السليمة» والشاعر نزار قباني الذي لامه لأنّه «لم يستغلّ موهبته الخصبة في غير المرأة» وافتتانه بصوت فيروز وأغانيها. وعن الغاية من هذه الحياة، قال: «للإنسان غاية غير الأكل والشرب والحياة، فهو خليقٌ لغاية أسمى للدخول إلى حياة أخرى يبدأها بعد الموت. ويكفي الإنسان في هذه الحياة أن يتوصل إلى معرفة الله، تلك المعرفة التي تُخوّله الدخول في الحياة المقبلة».

وخلال هذه الزيارة تعرّفتْ ثريّا على ميّ ابنة أخيه نجيب، التي كانت تشاركه الحياة في هذا المنزل، ولا يستطيع البقاء فيه بدونها، فهي ترعاه في هذه الفترة المتقدّمة من العمر، وتقوم بتقديم الواجبات المعتادة للضيوف الذين يأتون لزيارته، بل هي عينه التي تشرف على كلّ شيء يعنيه بما فيه الخاصّ والحميم. ولهذا، سيرد ذكر ميّ كثيرًا في الرسائل، كأنّها صارت جزءًا من «اللغز». ويبقى أنّ نعيمة لم يُخْفِ إعجابه بشغف القارئة المثقّفة التي سحرته بـ«الدقائق الطيّبة التي تمتّعتُ في خلالها بعذوبة حديثها، وصفاء فكرها، وجميل مودّتها» كما كتب إليها بعد عودتها. وقد ازداد هذا الإعجاب تجاه ثريّا بعد سفره إلى عمّان في أقلّ من عام، حيث حاضر في موضوع «الغربة الكبرى» في دار الإذاعة، وقدّمتْهُ ـ هي- إلى الجمهور في كلمتها الافتتاحيّة التي تركت «الأثر العميق» في نفسه ومعها أطيب الذكريات، بل زاد الإعجاب أكثر بعد زيارة ثريّا لبسكنتا وتردّدها على نعيمة لثلاثة أعوام متتالية في كلّ عاشر من آب/ أغسطس بين عامي 1962 و1963 (هل هي مصادفة؟) كأنّ ثريّا وجدت في الأستاذ شيئًا ما كانت تفتقده في حياتها، وكان هو يجذبه إليها سَمْتُ الأنثى وجوهرها الحيّ الذي ينفض عنه «مرض» الشرق!

هكذا، نكتشف مع توالي الرسائل كيف كان رصيد الثقة والتقدير بين الطرفين يتنامى باستمرار؛ فهذه ثريّا تعرض عليه خدماتها لترتيب مكتبته وتنسيقها، ثُمّ تعرض عليه خدماتها بعد زواج ميّ وسفرها إلى ضاحية بيروت، وقد تركت «فراغًا هائلا» لديه، وتُسرّ إليه بمعاناتها وآلامها من ضيق واغتراب. وهذا ميخائيل يمدُّ يده بين الرسائل المكدّسة على مكتبه ليلتقط رسالتها «الفوّاحة» ويخبرها بما استجدّ عنده من ثمار التأليف وطوارئ الحياة، بل ظلّ يرقب زيارتها في كلّ صيف، أو في بيروت حين انتقل للعيش فيها مع ميّ، ويحفّزها للدراسة عندما كانت تنوي الالتحاق بالجامعة اللبنانية في بيروت، أو دراسة علم اللغة في جامعة جورج تاون، حينما انتقلت إلى أمريكا، ثُمّ البحث في أدب المهجر لنيل الدكتوراه، والإقبال على الحياة والسلام معها، ويواسيها بنجاتها من كارثة 5 حزيران/يونيو 1967 التي خدشت روحها، وبوفاة شقيقها هاني. وما أبلغ هذه السطور التي كتبها إليها: «بعد أن تلقّيْتُ بطاقتك من لندن لبثتُ أترقّب قدومك في العاشر من هذا الشهر، وكنتُ قد وضعت برنامجًا خاصًّا لذلك اليوم يتضمّنُ غداءً في الشخروب ونُزْهةً في جواره حيث «مدينة الأشباح» والخلوات التي لي فيها. وعندما انقضى النّهار ولم نسمع منك أو عنك كلمةً أخذ يساورني القلق عليك، ثُمّ كان أن تلقّيْتُ برقيّتك في اليوم التالي، ثُمّ رسالتك بعد أيّام، فانتفى القلق وبقيت ذكرى الانتظار».

هل تحوّل الإعجاب إلى حُبّ؟

قد يكون كذلك، إذا فهمنا هذا الحُبّ باعتباره شعورًا نبيلا يُغذّيه تقدير الآخر والميل إليه، وليس قصّةً لها مقدمة ونتائج وجردة حساب. فهو لم تكن تُحرّكه نحوها نوازعُ الشهوة العارضة، بل خصال الكبير الذي خبر النوايا وعفّ عن الصغائر، وهو الذي ارتضى لنفسه بين بسكنتا والشخروب عزلةً هانئة ومُثْمرةً، بعد سنوات الكفاح ودروسه القاسية بين روسيا وأمريكا، الذي انطفأ في دمه كلّ هوى إلى المرأة بعدما أحبّ ثلاث نساء؛ فاريا وبيلّا ونيونيا، وزاده هذا الحُبّ «غِــنًى روحيًّا» ثُمّ إعراضًا عن كلّ فكرة للزواج، أو على الأقلّ كما فهم هذا الزواج ووطّنَ نفسه عليه، وقد وجدناه في إحدى هذه الرسائل يجيب ثريّا حين طلبت «النصح» في قضية الزواج، بقوله: «والذين يؤمنون مثلي بالتقمُّص ينظرون إلى الزواج كما لو كان نتيجةً حتميّةً لعلاقات سابقة في حيوات سابقات». لقد انتهت القصّة منذ زمان، ولم يتبقّ منها سوى دَرْس، بل هو دَرْسٌ عظيمٌ في كتاب العزلة.

من رسالة إلى أخرى، كان يتطوّر محتوى الملفوظ وسجلّه التداولي بقدر ما ينصرف من العامّ الذي يستوعب اتّجاه الأديب وما عُرف عنه من أفكار فلسفيّة وتأمُّلات حِكميّة تتطرق لوجود الإنسان، وعلاقاته بالله والكون والحياة، إلى الشخصيّ الذي يشِعُّ بحقائق وأسرار صغيرة وحميمية تخصّ هذا الطرف أو ذلك، بل إنّ بعضها يفيدنا في فهم هذا الأديب ويُعمِّق معرفتنا بأطوار من حياته لم يذكرها في سيرته الذاتية «سبعون».

فمن جهة أولى، كان نعيمة يكتب إلى ثريّا باعتبارها إنسانةً حسّاسةً ومثقّفة متسائلة وحائرة، فلا يجد غضاضةً في أن يناقش معها بعض ما كان يشغله من مسائل وجودية ونفسية وثقافية وأدبية (الزواج، شعر المتنبي، الاغتراب، الغاية من الوجود، حكمة النظام الكونيّ، التعزية الحقيقية..) بل كان يستلهم مما تطرحه طريقًا أيسر للفهم والتحليل؛ فهي ـ في نظره ـ نموذج المرأة المتعلّمة المكافحة ضمن النهضة النسائية العربية، قائلا: «لَبِشارةٌ لي بأنّ بين نساء بلادي مَنْ يفهمن تمام الفهم قول السيّد المسيح: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». وعندي أنّ أحوج ما يحتاجه العالم اليوم رجالا ونساء، يذكرون أبدًا ويُذكّرون أنّ الحياة أكثر من كفاحٍ في سبيل الكسب المادّي والرفاهية الجسدية والمكانة السياسية والاجتماعية، وأنّ أفدح الخسارة هي أن يربح الإنسانُ العالَمَ ويخسر نفسه».

في إحدى الرسائل الطويلة، تعرض عليه ثريّا بعض المشكلات النفسانية التي تواجهها في حياتها، ولاسيما شعورها بعدم الانسجام والبيئة التي تعيش فيها، فيبسط أمامها ـ باهتمام ويسر ـ تحليلا لذلك الشعور والأسباب التي تكمن وراءه، وفي مكان آخر، يعترض على شعورها بأنّها «ألعوبة في يد القدر» ويؤكّد «على أنّه مرحلةٌ لا بُدّ لك من اجتيازها لتبلغي ما هو أحسن أو أبعد منها. وحسبك اطمئنانًا أن تتخيّلي نفسك وقد أُلْقيت إليك مقاليد الكون بأشكاله العجيبة وأبعاده اللامتناهية ـ فهل كنتِ تجعلينه أجمل أو أكمل مما هو؟ وما دُمْنا من العجز حيث لا نستطيع أن نخلق أجسادنا على هُدانا، أو أن نُبدّل شيئاً في نظام الكون، فليَكُنْ شأننا معه أن نفهم نظامه، لا أن نحتجّ عليه، عسانا أن نسعد بمسايرته بدلاً من أن نشقى بمعاندته».

ومن جهة ثانية، يبدو نعيمة راضيا بمعتكفه في بسكنتا، حيث يعيش منذ اثنتين وثلاثين سنة «مع أخٍ يصغرني بعض سنوات، والأواصر التي تربطني به وبزوجته وأولاده الثلاثة لا تفوقها بصفائها ومتانتها أواصر» وحيث ما زال منشغلا ـ رغم الشيخوخة وآلام اليد اليمنى ـ في التأليف (هوامش: رسائل، من وحي المسيح..). وكان لا يقطع هذا المعتكف إلا بسفرة ضرورية لمحاضرة إلى بيروت وعمّان، أو إلى الهند والاتحاد السوفييتي، أو بنزهة في جوار الشخروب، حيث «مدينة الأشباح» وخلواته فيها، أو بحصّةٍ من الشتاء في بيروت مع ميّ وشقيقها الأصغر نديم خرّيج جامعة كامبريدج، وكان الثلاثة ـ كما يكتب ـ «ثالوثًا متساويًا في الجوهر وغير منقسم». وكان ذلك قبل أن ينتقل إلى بيروت إثر حادث وقع له في الشخروب، تلقَّاه نعيمه بصبر جميل، وكان يقول لمُحدِّثيه: «كنت أعلم أن الشخروب لا بدَّ أن يشرب من دمي يومًا». وفي ضواحي بيروت عاش في شُقّة مع ميّ بعد زواجها الذي أثمر حفيدته سهى التي أحبّها وجدّدت إيمانه الدائم بالحياة، قبل أن ينتقلوا للعيش في»الزّلقا». غير أنّ الذي بات يؤلمه ويشغل باله، هو المشقّة التي كان يجدها في تحريك يده اليمنى عند الكتابة؛ فالأصابع التي تمسك بالقلم باتت لا تسيطر عليه إلّا إذا هو أسعفها بسبّابة اليسرى، وفي ذلك من البطء والمشقّة ما فيه. حدث ذلك بعد الصدمة التي تعرّض لها قبل سنوات؛ في نحو عام 1958 وتركت أثرها في أعصاب اليد، حيث انكسرت الترقوة اليمنى في مكانين، وهو يكتب: «فبتُّ لا أملك القدرة على تسيير قلمي بمثل السهولة التي كانت لي من قبل، وباتت الكتابة عندي لا تخلو من المشقّة الجسدية وما يرافقها من إزعاج نفساني». ولهذا، نلاحظ التغيُّر الذي حدث في خطّ الرسائل وارتجافه تحت وطء الصعوبة التي أصبح يعانيها في الكتابة. لكنّه ـ مع ذلك ـ كان يقاوم فلا يستطيع الانقطاع عن الكتابة مع كثرة ما لديه من مشاريع التأليف، ومع ما كان يجده في ذلك الحبر الذي يتلألأ بالآمال من عزاء داخليّ، وسلوة ربّانية مُحلّقة.

شاعر وكاتب مغربي
عن القدس العربي
20/1/2021






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com