![]() |
|
عودة الى أدب وفن
إميل حبيبي والسخرية الممزوجة بالأسى - شكيب كاظم
تميز الروائي الفلسطيني الراحل إميل حبيبي (1921ـ 1996) الذي أوصى أن تكتب هذه العبارة على قبره (باق في حيفا) هو الذي لم يغادر حيفا مسقط رأسه أبدا، تميز بأسلوبه الفكه، الذي يكاد ينتزع الضحكة من خلال المأساة الموجعة، ولا غرو في ذلك فالفلسطيني عاش الظلم الفاجع، الذي صبه عليه الفهم العالمي المجزوء والمبتسر للقضية، التي ما عرف العرب الدفاع عنها، بسبب التخلف والمطامع في الأرض الفلسطينية، قدم لنا إميل حبيبي ملهاة مترعة، من مأساة مكتنزة بالفجائع، سواء في عمله «سداسية الأيام الستة» أم عمله الروائي الرائع «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» أم في روايته المأساوية التراجيدية المكثـــفة «إخطية» الصادرة ضمن سلسلة (الكتاب للجميع) سنة 2001.
قلة هم الكتاب الفكهون في عالمنا العربي، يقف على رأسهم الأديب اللبناني مارون عبود (ت-1962) فضلا عن الكاتب المصري الراحل عبد العزيز البشري، وفي العراق، القاص والروائي والكاتب الصحافي حسن العاني. في روايته المكثفة، كأنها خارجة من بودقة أو بوتقة، يقدم الروائي إميل حبيبي فانتازيا فاجعة، ممزوجة بالطرفة والملحة اللماحة، والأضداد، فهذا الكيان العنصري الخائف من الفلسطيني، مهما كان هذا الفلسطيني، يظل يحيا هاجس الشك ورهاب الظن والتفسير السلبي للحادث، أي حادث ومهما كان الحادث بسيطا. يحدث أن يتأخر السير في أحد الشوارع في مدينة حيفا، لأسباب بسيطة أو لسبب بسيط، فتقوم القيامة وينشغل رجال الأمن بالتحقيق في ملابسات الحادث الطارئ، الذي لا يكاد يلتفت إليه إلا الخائف الوجل، الذي يعاني رهابا مدمرا، يحيل حياته إلى جحيم، لأنه هو الذي أحال حياة الفلسطينيين سراب بقيعة يحسبه الظمان ماء وجحيما مدمرا، وسلب الأرض، ففي كل مدن الدنيا يحدث أن يتأخر السير لسبب ما، لكنه في دولة الخوف والارتياب والفانتازيا الفاجعة، يكون له وقع مؤثر، بل مدمر، تقوم القيامة على هذا الشاب العربي الذي شاء له سوء طالعه أن تكون سيارته (الجاكوار) هي السيارة الأولى، الواقفة أمام (الرامزور) والرامزور كلمة عبرانية تعني الإشارة الضوئية بالعربية، ومعناها trafic light rozm بالإنكليزية، ويبدأ التحقيق مع الشاب الفلسطيني ولأنه كان محاميا، فكان واثقا بأنه سيتمكن من الدفاع عن نفسه وإحقاق حقه. يكون جوابه عن سبب عدم السير مع ظهور الإشارة الخضراء، إنه لم يكن راغبا في السير، فتسأله هيئة التحقيق العليا عن سبب توقفه ثانية، على الرغم من ظهور الضوء الأخضر، فيأتي جوابه إنه كان منشغلا بالحديث مع امرأة يهودية شقراء، كانت واقفة بسيارتها المرسيدس البيضاء، على يمين سيارته أمام زور الرام مباشرة، فألهاه حديثها عن رؤية الضوء الأخضر، حين ظهوره للمرة الثانية، لذا حاولت هيئة التحقيق، التي بدأت تطلق صفة المخرب على المحامي العربي ذرب اللسان، ولاسيما في الجواب الثالث، منعت وسائل الإعلام من الإفصاح عن اسم المحامي العربي، تجنبا للافصاح عن اسم المرأة اليهودية، التي يبدو أنها ترتبط بعلاقة غرامية معه، حفاظا على سمعة ذويها، وهم من ذوي الطول والحول، لكن ما أن بدأ المحامي العربي الشاب بالإجابة عن سبب بقائه أمام الإشارة الضوئية للمرة الثالثة، حتى جاءته لكمة أو لطمة، أوقعته أرضا، ويبدو أنه وصل إلى موطن الأسرار والفضائح ولم يقل لنفسه قفي! وأخيرا تضطر المحكمة العليا، وقد أسر ألباب وعقول قضاتها – كما صرح المحامي العربي الشاب – إلى إطلاق سراحه، مفرجا ما بين اصبعي يده اليمنى، علامة النصر، قال فردوا العلامة عليه بأحسن منها انفراجا! وتظل هيئة التحقيق تبحث عن ضحية أخرى، وقد أفحمها المحامي الشاب، فاضطرت لإطلاق سراحه، لكن امرأة عجوزا كانت تقف بسيارتها خلف سيارة المحامي، قالت إنها شاهدت مخربا فلسطينيا شابا ملثما بكوفية فلسطينية مرقطة بالأبيض والأسود مثل كوفية أبي عمار، وهذا سبب دافع لاتهامه بأنه كان وراء عرقلة السير في تلك الظهيرة الحيفاوية، وأيد أقوالها شاب يهودي متدين كان يشتري فلافل! وإذ يذهب صحافي فلسطيني شاب إلى مركز شرطة حيفا، لينقل وقائع التحقيق، فتلقي الشرطة القبض عليه، لكن حين يواجههم بأنه جاء من غير تبليغ، أو ما شابه، كان الجواب حاضرا لا فرق عندنا، فإننا سنحضرك بالقوة لو لم تأت، تسأل وما التهمة؟! أنت الشاب الملثم! ويواصل الروائي الكبير فنا وإبداعا إميل حبيبي، تقديم هذه الفانتازيا الفاجعة والمأساة المدوية الممزوجة بخيوط الكوميديا الضاحكة، التي ترسم البسمة على وجوهنا، ونحن نقرأ وقائع هذا الظلم وهذه التفرقة العنصرية، في مجتمع يدعي الدمقراطية واحترام حقوق الإنسان، في وقت يواصل فيه قضم الأراضي الفلسطينية، والاستمرار في سياسة الاستيطان، وبناء المستوطنات في أراضي الضفة الغربية المحتلة، التي يجب إعادتها إلى السلطة الفلسطينية، بموجب اتفاقيات أوسلو سنة 1993. إميل حبيبي يسخر سخرية مرة، وشر البلية ما يضحك، فإذ يمتنع الصحافي الشاب كونه بريئا، عن التعاون مع هيئة التحقيق، وعدم الإجابة على أسئلتها، ما يزيد في شك هيئة التحقيق ببراءته، وقد تبين أنه اعتقل قبل خمس عشرة سنة، مع أقرانه في المدرسة الابتدائية، بتهمة إسقاط علم الدولة الإسرائيلية من فوق سارية المدرسة، وإذ يفرج عن الصحافي لعدم ثبوت الأدلة ضده، يتواصل التحقيق السري مع بائع الفلافل وزبونه الملتحي كلا على حدة! أما المرأة العجوز التي أخبرت عن الفلسطيني الملثم، فإن رئيس الدولة يقدم لها وسام المشاركين في حروب إسرائيل، لقاء شجاعتها في الصمود والتصدي! لكن إميل حبيبي يضرب ضربته الصادمة الموجعة، فالمرأة تذكره بأصلهما المشترك، وإن اسرتيهما كانتا تسكنان في حي أوروبي من أحياء مدينة جوهانسبرغ في جمهورية جنوب افريقيا. إنهما طارئان على الأرض مغتصبان لها، وهما، وهم جميعا يعرفون ذلك، إذ قلدها قبلة أخوية خشية إعلاء صوتها وانفضاح أمرهما، كونهما غرباء عن الأرض، قلدها قبلة أخوية، وهمس في أذنها» مش وقته» فضحكت وهمست في أذنه «شيطان» فحملتها الصحف دليلا على شعبية رؤساء الدولة! ويظل إميل حبيبي يواصل سرده الفكه المكتظ بالمفارقات، ففي روايته «المتشائل» تلك، كان بطل الرواية سعيد أبو النحس، مستعدا لتقديم أي شيء مقابل البقاء في بلده، حتى إنه سمى ابنه (ولاء)! إعلانا لولائه للحاكم العسكري الصهيوني، لكن المفارقة تأتي من أن (ولاء) تطوع في العمل الفدائي الفلسطيني، وأعلن ولاءه لأرضه وثورته وحقه في العودة وتحرير الأرض، كما أنه يوم الجمعة التاسع من يونيو/حزيران 1967، بعد انهيار الجبهتين المصرية والأردنية، وبقاء سوريا تقاتل ببسالة وحدها، والراديو الإسرائيلي يطلب رفع الرايات البيض، للتخلص من قصف سلاح الجو الإسرائيلي لمواقع الجيش السوري، يسمع سعيد أبو النحس النداء، فيصعد إلى سطح داره، رافعا شرشفا كبيرا أبيض على خشبة مكنسة، هو الذي يسكن حيفا والبعيد عن جبهة القتال، زيادة في النكاية بالعدو المتغطرس والهزء به، فيلقى القبض عليه، فيا للمفارقة المضحكة المبكية! بتهمة الإساءة للدولة! إن الروائي الفلسطيني الراحل إميل حبيبي، على الرغم من قلة نتاجه الروائي المكتوب أو المنشور، فإنه سيبقى علامة بارزة في عالم السرديات، على مستوى فلسطين والوطن العربي، لمزيتين امتاز بهما سرده الروائي، الأولى: ظاهرة الدعابة المرة والفكاهة الممزوجة بالأسى، والثانية: ظاهرة التركيز، فأسلوبه مركز مكثف كأنه خارج من إنبيق مختبر. كاتب عراقي عن القدس العربي 28/12/2020 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |