![]() |
|
عودة الى أدب وفن
أنا والمتنبي وحرّاس القوافي - سعاد العنزي
بإمكان المرء أن يتعلم من عالَم وسائل التواصل الاجتماعي شيئاً مهماً، يتعلق بعقلانية المتابع، وهو أن ليست كل الردود الواردة قابلة لأن تكون موضوعية ومنطقية، بل من الممكن أن هذه الردود تعكس الوعي المتخلف والسطحي والأيديولوجي والبدائي أيضاً لدى طبقات عدة في مجتمعات العالم العربي. كما تعلمت، فإن الناس لا يريدون سماع صوتك، بل يريدون سماع أصداء أصواتهم من خلالك. وكثير منهم ينطبق عليه قول المتنبي:
ودَعْ كل صوتٍ غيرَ صوتي فإنني أنا الصائحُ المحكي والآخرُ الصدى في هذا السياق، أستطيع القول إننا ننتمي إلى مجتمع «مونولوجي» أكثر منه مجتمعا «ديالوغيا»، لأن في أغلب شرائح المجتمع العربي لا تظهر لدينا صورة المجتمع الحواري، متبادل الأفكار النقاشية، والمتقبل للآراء النقدية المغايرة، بل يبدو أننا نعيش في مجتمع الفكرة الواحدة، والصوت الواحد، والذات الواحدة، المُشبَعة بالتصورات الجاهزة لموضوعات الحياة، التي فكّر فيها مَن سبقونا وقدموها لنا بقوالبَ جاهزة، وصيغ لغوية «تبرمجت» عليها عقولنا على نحو غير واعٍ. سأقف عند أحد الأمثلة المهمة لهذه الظاهرة، من خلال أحد أهم أعلام الشعر العربي القديم، ذي الحضور القوي في الثقافة العربية اليوم، في التلقي والتفكير النقدي، القديم والحديث، إنه المتنبي. يُنظر إلى المتنبي على أنه أحد أكبر شعراء العربية، وهذه النظرة لا تجانب الصواب، إذا ما نظرنا إلى مقاييس النقد الأدبي القديم. في حين، في ضوء الرؤى النقدية الحديثة التي سبرت أغوار النصوص الأدبية، باحثة عن النزعة الإنسانية وتقويض كل الممارسات النرجسية والسادية والديكتاتورية، ثمة وجهة نظر أخرى. لقد قرأنا كثيراً عن المتنبي الطموح والشاعر الفريد، وقيل كثيرٌ في أغراضه الشعرية، إلا أننا لم نرَ أحداً أثار صورة المتنبي العاشق بعمق نقدي. هل كان المتنبي بعيداً عن الحب في ثقافة عربية اشتهرت مع أسماء شعرائها أسماء عشيقاتهم؟ وهل كان المتنبي يخجل من الحب؟ وهل كان العاشق والمعشوق في الوقت عينه، أو أن الطموح السياسي قتل فيه الإنسان العاشق؟ أو أنه كان يتوق إلى امرأة مختلفة لم تكن موجودة إلا في ذهنه؟ وهل بالإمكان القول إن المتنبي طرح نفسه ظاهرة جديدة في زمنه، تم استدعاؤها وممارستها وتكريسها في الشعر العربي الحديث اليوم منذ شعراء النهضة، حتى اليوم، باستثناء حالات قليلة مشهورة في الثقافة العربية المعاصرة، نعرف أسماء معشوقاتهم مثل ريتا محمود درويش، وقصص الحب الخفية لشعراء ظهرت في رسائلهم الخفية، كعشاق مَي زيادة؟ هنا، نستطيع أن نقيسَ ما طرحناه عن المتنبي، على شعراء العصر الحديث، مثل أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي كان شاعر البلاط منذ بداياته الشعرية حتى منفاه، والذي انتهج والبارودي نهج المتنبي في عدم الإعلان عن اسم المرأة في قصائدهما الغزلية. تحلل الناقدة الفلسطينية سلمى الجيوسي، ظاهرة المجاراة في الغزل لدى شعراء العصر الحديث، زاعمةً أن الغزل كان يأتي من باب المجاراة، ولم يصدر عن تجارب عاطفية صادقة، إذ قالت: «كان شوقي، كأغلب سكان المدن في زمنه، يعيش تحت أنظار الناس، لذا فقد كان قسم كبير من حياته منفصلاً عن بعض أنواع التجارب العاطفية. كان يعيش الجزء الأكبر من يومه في مجتمع الرجال، منسجماً كل الانسجام مع القيم الاجتماعية التي سادت عصره، شديد الإحساس بمحيطه الاجتماعي». (سلمى الجيوسي، «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث» ـ 2007). وفق ما تقدم، هل من الممكن القول، إن المتنبي هو أول مَن أسس لقصيدة الغزل بالفهم الحديث، التي ليست بالضرورة قصيدة لها ارتباط بقصة حقيقية، لأن الشعراء في العصر الحديث يكتبون قصائدهم الغزلية، من دون ذكر مناسبات قصائدهم، ولا مَن هن النساء المعنيات، وليس من الضروري أن تكون القصيدة ناتجة عن تجربة حقيقية في الحب. إن الابتعاد عن ذكر أسماء النساء في العصر الحديث، قد يعود إلى طبيعة المجتمعات العربية المحافظة، ولاسيما أنه في زمن شوقي، المجتمع كان للتو خارجاً من عصر الحريم. وقد يكمن السبب بشكل كبير في ما أرجعه رولان بارت في إعلانه الشهير عن «موت المؤلف»: «صورة الأدب الموجودة في الثقافة المعاصرة هي بشكل استبدادي مركزة على المؤلف، شخصه، تاريخه، أذواقه ورغباته: يبقى النقد يتشكل، في أكثر الوقت، بقول: إن عمل بودلير هو فشل الرجل بودلير، وعمل فان غوخ هو جنونه، ورذيلة تشايكوفسكي، شرح العمل، دوماً يبحث في الرجل الذي أصدر العمل، كما لو خلال الأكثر والأقل استعارة واضحة للتخييل، كان دائماً بشكل نهائي الصوت للشخص الواحد نفسه، الكاتب، الذي ينقل ثقته» (رولان بارت، «هسهسة اللغة»، ترجمة منذر عياشي). وبذا، نستطيع تفهم خوف شعراء العصر الحديث من ذكر أسماء محبوباتهم، في بيئة ثقافية تختزل إبداع المرء في تعقب خيباته العاطفية، وأصدائها في سيرته الذاتية، وميل المجتمعات المعاصرة إلى المحافظة والتكتم أكثر من المجتمعات القديمة، التي امتلأت أدبياتها بقصص العشق والجواري من الخلفاء والشعراء إلى البسطاء. حقيقة، تفاعلت مع هذا النقاش مجموعة من المتابعين المعنيين بالشأن الثقافي، منهم مَن كان رافضاً فتح مثل هذا الموضوع، لقداسة المتنبي ومكانته الرفيعة في التلقي العربي المعاصر، فنصبوا من أنفسهم حراساً لقوافي المتنبي وشوارده. في حين كان هناك فريق وصل إلى ضفة أخرى تؤمن بحقنا – نحن المثقفين- في طرح أسئلتنا المعرفية حول موضوعات الأدب المختلفة، مثل الناقدة والأديبة العُمانية المطلعة على تفاصيل المشهد الأدبي والنقدي والثقافي العربي عزيزة الطائي القائلة: «المتنبي العاشـــق لم يعطِه النقاد والمدونون قدراً كافياً من الحديث عن ذلك، ولا ذات المتنبي شغلت نفسها بالغزل، حتى لو أحب أخت سيف الدولة، فهي قصيدة يتيمة، وعشقه لجمال البدويات والطبيعة جاء طي قصائده. وأعتقد أن نفسه الطامحة إلى العلياء والمجد والخلود، خلدت ذكرى بيانه وفصاحته». أما زكية العتيبي، فتقول: إن «قصة عشقه لا تكاد تُذكر. خبر بدون تفاصيل! حتى إن بعض مَن ترجم له قال إن كل بيت نظمه في سيف الدولة الحمداني المقصود به خولة أخت سيف الدولة، التي وقع في حبها». قد تكون هناك مجموعة من الباحثين الذين توصلوا إلى خلاصة مفادها، أن نرجسية المتنبي كانت سبباً في هذه الظاهرة، لكن ما أود أن أتساءل عنه اليوم هو الجانب السيكولوجي، عن سبب غياب المرأة وأثر ذلك في سيكولوجيته ونفسيته، وما الذي افتقده المتنبي بفقدانه الحب؟ يبين رياض نور الله، في كتابه «نار وردة الشمال»، وهو مجموعة ترجمات لقصائد الحب في الشعر الإنكليزي من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين، أن الحب لا يتعارض مع أي نفس تنشدُ العُلا وتطمح للوصول إلى الكمال: «وما كان الحديث في الحب كابحاً لروح تنشد المُنتهى، أو لوطن يضج تحرقاً إلى الحرية، أو لنفس تسعى إلى التكامل، بل كان هبة براق وهزة بيرق، هُتافاً وهُتاف حق، وهجمة فداء، وعنصر خير وتحنان وبذل وتواصل، كما كان تهذيباً ونضجاً وتوازناً وحضارة، ومنطقاً فوق المنطق المهجن المسور» (نور الله «نار وردة الشمال» 1996). كلنا نحب أنفسنا، لكن بدرجات متفاوتة، وبدرجات أقل وضوحاً.. إنما، ربما كان المتنبي محكوماً بفكرة الفروسية والنزوع إلى المجد والشهرة، وهو الذي سمح لنفسه بإعلان اسم امرأة وحيدة، هي خولة أخت سيف الدولة، وأيضاً هو التائق دائماً إلى كسب هباته: إمارة أو ولاية تليق بموهبته الشعرية. ربما منعه طموحه السياسي وأنويته العالية من الدخول في عالم الحب الحقيقي، ومن أن يعيش تجربة شعرية يكون الحب «مؤججها الأول، وقلبها النابض، وحضنها الحاني، وجناحها المحلق ولو مضرجاً». («نار وردة الشمال»). خرج امرؤ القيس من عرش والده، ليعتلي عرش ممالك الخيال والحب والجمال، في حين مضى المتنبي في رحلة تذليل القوافي الشاردة لأجل مُلكٍ لم يتحقق، وفروسية دون كيخوتية أودته في المهالك. لم يكن المتنبي يعيش في زمن يؤهله أن يعيَ أن مملكة الشاعر الحقيقية هي شِعره، وجنود أطرافها المترامية هي المجازات والأخيلة والاستعارات. وهذا ما تحقق له في العصر الحديث مُتوجاً على عرش ذاكرة روائع الشعر العربي القديم. عن القدس العربي 12/10/2020 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |