|
عودة الى أدب وفن
محمود درويش: الشاعر الذي أصبح أيقونة فلسطين - جيرار بريميل
يحتفي هذا النص الذي نقدم ترجمته العربية، بتفاصيل دالة من سيرة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، الذي حلّت قبل أيام الذكرى الثانية عشرة لرحيله. يتعلق الأمر برؤية تصبو إلى القبض على التعدد الذي يسم شخصية الشاعر، التي خولت له أن يكون في أن أيقونة للشعب الفلسطيني، ومبدعا ذا رحابة كونية، وفي هذا السياق سعى الناقد وعالم الاجتماع الفرنسي جيرار بريميل (1932) إلى تسليط الضوء على تفاصيل ظلت مجهولة بالنسبة للمتلقي العربي، وتتعلق بانتقال قصيدته الرائعة «أحمد العربي» إلى الموسيقى من خلال التجربة المثيرة التي أشرف عليها الموسيقار النمساوي ماكس دوتش، وتلميذه الفنان الموسيقي المغربي أحمد الصياد.
في عام 1960 نشر محمود درويش وهو في سن التاسعة عشرة ديوانه الأول «عصافير بلا اجنحة» التي أفصح في سياقها عن وعيه الحاد بالشرط الفلسطيني. ينبغي أن نقول بأنه من خلال قوة الأشياء وعنف الوقائع، فإن هذا الوعي حصل عنده في مرحلة مبكرة جدا من حياته. لم يكد يكمل سنه السابعة حين طردت أسرته وكل سكان قريته البروة، بفعل قصف المدافع الإسرائيلية. وبعد شهور من ذلك وتحديدًا في نهاية عام 1948 دمرت القرية تماما، وأصبحت أثرا بعد عين. هي ذي إذن النكبة التي سوف يتبعها تدمير خمسمئة وسبع وستين قرية فلسطينية ومحوها من الخريطة. بعد فترة منفى في بيروت عادت أسرة درويش سرًا إلى هذا الجزء من فلسطين، الذي تحول إلى أرض إسرائيلية، لكي تكتشف بأن مستوطنة حلت محل القرية. وقد تعلم محمود في قرية دير الأسد المجاورة، التي استقرت فيها الأسرة للعيش في سرية. وأثناء زيارته الأخيرة إلى باريس قبل سنتين من وفاته، روى الشاعر بنوع من الدعابة كيف تعلم في سن مبكرة جدا الاختباء حين الإعلان عن دورية إسرائيلية، أو تفتيش روتيني. يمكننا في هذا الصنيع أن نلخص تكوينه الأساسي لهذا التعلم المزدوج للمنفى، قبل الأبجدية وحصول المعرفة بقواعد العمل السري. سويت وضعية الأسرة في سنة 1951 و1952 شأنها في ذلك شأن العديد من الفلسطينيين، الذين أصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية داخل بلدهم الأصلي. وقد حصل درويش المراهق والحالة هذه ليس فقط على ثقافة وطنه الأم، وإنما أيضا على ثقافة المحتل وفي مقدمتها اللغة العبرية. كان في العشرين من عمره أي بعد سنة من نشر ديوانه الأول، حين انضم بتأثير مثاليات وأوهام تلك المرحلة إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي راكاح. اعتقل خمس مرات بسبب كتاباته ونشاطه النضالي في الفترة ما بين 1961 و1967 ودائمًا بمعيّة مناضلين آخرين من أصول يهودية. وقد خبر في هذا السياق السجون الإسرائيلية، التي عبّر عنها في قصائده خصوصًا القصيدة الرهيبة: «متر مربع في السجن»: أفي الأرض هذا الدلال وهذا الجمال ولا باب للباب؟ وفي غمرة هذا النشاط النضالي كتب قصيدته القوية الجارحة: «سجل أنا عربي»: وأعمل مع رفاق الكدح في محجر. لم تكن القصيدة التي كتبها محمود، على علبة سجائر في مقهى في حيفا قد تحولت بعد إلى ما صارت اليه لاحقًا، أقصد إعلان هوية رمزي. لم تكن في غمرة لحظة غضب إلا جوابًا على ارغام الفلسطينيين على الرضوخ بدون هوادة للاستنطاقات والتحقيقات البيروقراطية المتكررة للشرطة الإسرائيلية. وهي طريقة لمخاطبة مفتشي الشرطة الإسرائيلية: سجل للمرة الأولى والأخيرة بانني «آخر». غير أن هذا الإعلان عن الهوية «العربية» لم يكن إطلاقًا البتة انغلاقا أو انكفاء على الذات. وإنما كان فعل مقاومة ضد القمع، ومن ثم كان تعبيرًا إنسانيا وكونيا. كان التشديد على كونية وإنسانية الفردانية الفلسطينية دائم الورود في كتابات درويش. وفي حوار أجراه عام 2006 و نشرته «لو نوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية: إذا كنت أحارب الصهيونية باعتبارها أيديولوجيا وواقعا سياسيا، فسبب كونها إقصائية ولا أرغب، ولا أستطيع الإجابة عليها بإقصائية عربية، وإنما أحبذ المشاركة والتعدد والتنوع. نلمس في هذا السياق أن أي وطنية عقلانية ومنفتحة، تقود صاحبها إلى أن يكون مواطنا للعالم. وقد أصبح محمود درويش مواطنا للعالم بالفعل، بتأثير حتمية المنفى وتعبر بعض قصائده عن ذلك بألم ومرارة. وتمثل ذلك بقصيدته التي احتفى بها بالهندي الأحمر، أو قصيدته المثيرة «مطار أثينا»: مطار أثينا يوزعنا للمطارات. قال المقاتل: أين أقاتل؟ صاحت به حامل: ابن أهديك طفلك؟ قال الموظف: أين أوظف مالي؟ قال رجال الجمارك: من أين جئتم؟ أجبنا: من البحر. قالوا: إلى أين تمضون؟ قلنا إلى البحر. قالوا: واين عناوينكم؟ قالت امرأة من جماعتنا: بقجتي قريتي. بعد 1967 وحرب الأيام الستة، حكم عليه بالإقامة الإجبارية في حيفا. غير أنه تمكن من الفرار ليضطر بعد ذلك إلى المنفى بين موسكو والقاهرة وبيروت. وفي بيروت وإبان حرب لبنان الأولى عام 1982. نصب درويش نفسه مؤرخا يحقق الوصل بين المقاومة الفلسطينية والاعتداءات الإسرائيلية. وفي كتابه السردي «ذاكرة للنسيان» يروي وفق أسلوب اليوميات حياة مقاتل فلسطيني أثناء الحصار طوال يوم واحد. أصبح عضوا في منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد انتصار إسرائيل وسوريا في آن واحد، تم طرد المنظمة من لبنان. وكان أن حرم المنفى من جديد. منفى يلد آخر: القاهرة تونس نيويورك وباريس. وقد كتب في هذا السياق: الذي حولني إلى منفي حولني إلى قنبلة. منطق حتمي وقاتل وتحذير رهيب لم يتأمله لا الناشطون الصهاينة ولا التوسع الاستيطاني، ولا داعموه ومؤيدوه الأوروبيون والأمريكيون. وبعد خمس سنوات من مغادرته لبيروت أصبح عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. وقد شارك بهذه الصفة في بدايات المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، مع احتفاظه بحسه النقدي وحياده. ولهذا السبب رفض مساندة وتأييد اتفاقية أوسلو، وهو ما دفعه إلى الاستقالة من منظمة التحرير: أفضل السلام على الحرب، لكن ينبغي لهذا السلام أن يكون على الأقل عادلًا. ولن يعجزنا تقديم الدليل على أن ما اعقب ذلك لم يجعله مخطئا. ولم يتخذ قرار العودة بعد توقيع الاتفاقية وقيام السلطة الفلسطينية. ما يثير الانتباه في هذا النشاط السياسي الاستثنائي، بوصفه مناضلا ومقاوما ومحررا صحافيا ومسؤولا سياسيا ومدير تحرير مجلة ثقافية – رأس تحرير مجلة «الكرمل» على امتداد عشرين عاما – إنه شدّد دائما على الاحتفاظ بهويته، بوصفه شاعرا في المقام الأول. سوف نستنتج والحالة هذه أن هذا الشاعر المقاتل، تحول على امتداد التزامه، وفي غمرة ترحاله وتطوافه إلى أكثر شعراء القرن العشرين خصوبة. ومن بين الترجمات التي أنجزت لعمل الشاعر، وأغلبها من إنجاز صديقه إلياس صنبر، نلفي «تضيق بنا الأرض» وهي أنطولوجيا صدرت عام 2000 عن دار غاليمار التي ضمت مقتطفات من ديوانيه الرئيسين «المساء الأخير فوق هذه الأرض»، و»لماذا تركت الحصان وحيدا؟». يتحتم أيضا قراءة «الجدارية» التي تعتبر بمثابة وصية شعرية ووجودية. ثمة في هذه القصيدة نبرة تذكرنا بفرانسوا فيون «حوار القلب والجسد»، أو السيرة الذاتية للشاعر التركي ناظم حكمت، التي صدرت في السنة ذاتها، التي نشر فيها أول عمل شعري لدرويش. تعتبر نصوصه النثرية وحواراته، خصوصًا حواره الكثيف مع الشاعر اللبناني عباس بيضون، وأحاديثه مع صبحي حديدي، تتيح للقارئ فرصة اكتشاف فيلسوف لغة حقيقي، من خلال تفكيره حول ما يمكن أن تسمه باتيكا القصيدة، وهنا نلمس التأثير الكبير لسبينوزا وفريدريك نيتشه في «العلم المرح». وفي هذا السياق يشكل الكتاب، الذي يضم حواراته «فلسطين بوصفها استعارة» الذي صدر عن اكت سود درسا يمكن أن يتدبره العديد من الكتاب المعاصرين. من خلال دواوينه يمكننا أن نتبين كيف أن محمود درويش، رجل الفعل والنضال، الذي أصبح مفكرا في الكتابة، يفصح عن نفسه أيضا باعتباره شاعر الجرح والحياة. وبالنسبة لبعض النقاد والدارسين فإن محمود درويش يعتبر شاعر الحنين. وهذا ليس مجانبا للصواب؛ بحكم أن هذه السمة شديدة الحضور والاطراد في مجمل الشعر العربي. وقد جرى استثمار ذلك أثناء المونتاج الشعري، الذي أشرفت عليه ناديا راجوني، والذي أقيم احتفاء بالشاعر في الثلاثين من يناير/كانون الثاني عام 2002 في مسرح باليت في مدينة رينس الفرنسية. لسمة الحنين حضور – وهذا صحيح- ولكن وفق المعنى الذي يتم فيها تحديد معنى الحنين، باعتباره خلاصة الندوب العالقة بالذاكرة، وما أكثر قصائد درويش، التي تغص بهذه الندوب. ومن ثم دلالة هذا الحوار في «يوميات حزن عادي»: ماذا تفعل يا أبي؟ أبحث عن قلبي الذي وقع في تلك الليلة. وهل تجده هنا؟ أين أجده إذن! أنحني على الأرض وألتقطه حبات حبات كما تجمع الفلاحات في تشرين حبات الزيتون. وفي قصيدة «تضيق بنا الأرض»: ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا وَنَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتاً سَريعَ النُّمُوِّ، وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلا. لا يمكننا أن نتحدث عن الحنين في شعر درويش، بدون أن نولي العناية للدعابة التي تسمه. وهذه الدعابة التي تؤشر إلى ضمان لالتزام مسافة من الأشياء والظواهر، تشكل بالنسبة لانتونان أرتو إحدى الدعائم الثلاث للشعر، التي نحس بقوة حضورها في العديد من قصائد الشاعر، خصوصًا في «الجدارية». يمكن للدعابة أو السخرية في شعر درويش أن تتم بموازاة الغضب: باعوا دمي كالحساء المعلب وايضاً مع الحنان: لا تموتوا قبل أن تعتذروا من وردة لم تبصروها. يبدو لنا محمود درويش أشبه بمشاء انخرط في المسيرة الطويلة للكتابة، يحدوه شرخ سيتحمل مسؤوليته وصراع أساسي. وهذا ما يصرح به في أحد حواراته: المسير الصعب في الدرب الطويل للقصيدة التي لم تكتب بعد. وليس من قبيل الصدفة أن يعلن انتماءه، عقب لقائه بالشاعر اليوناني يانيس ريتسوس في أثينا عام 1984 إلى ما سماه بالغنائية الملحمية. وهو اختيار شعري يعرّفه بأنه إدراك تراجيدي للتاريخ، وتعبير عن وعي جماعي بالفقد والحداد. وهو تعبير لا يمثل نقيضًا حسب تصوره للأغنية. بيد أننا لا نعرف إلا القليل عن حكاية قديمة بعض الشيء ولها تعلق بقصيدة «سجل أنا عربي». وقد طوى النسيان هذا الحادث. مثل الفنان الموسيقي المغربي أحمد الصياد الذي ولد عام 1939 وجهًا لامعًا وبارزًا في الموسيقى الفرنسية الحديثة والمعاصرة على امتداد عقود طويلة. وقد اكتشف عام 1974 قصيدة درويش «سجل أنا عربي». وقد ألف بتأثير ذلك موسيقى تحمل اسم القصيدة. كانت المرحلة صعبة وقاسية بالنسبة لمنظمة التحرير الفلسطينية. تصاعدت حدة المقاومة الفلسطينية للاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، وواكب ذلك شراسة القمع وبناء المستوطنات. وقبل سنتين من هذا التاريخ اغتالت المخابرات الإسرائيلية أقرب أصدقاء درويش في بيروت الكاتب غسان كنفاني. وقد ردت المقاومة الفلسطينية بعمليات عنيفة في الغالب، كانت إسرائيل تنعتها بأنها إرهابية. وفي هذا السياق المشحون بالتوتر ألفّ أحمد الصياد مقطوعته الموسيقية، ولم يكتف بذلك إذ أكسبها تفكيره السياسي امتدادًا يناسب ما كان يصبو إليه الشاعر. كان أحمد الصياد مناضلا سياسيا مغربيا شابا، ينتمي إلى اليسار الراديكالي، قبل أن يصبح قبل لجوئه إلى فرنسا أحد المع وأبرز تلامذة ماكس دوتش الموسيقار النمساوي اليهودي، الذي كان بدوره تلميذا للموسيقار أرنولد سشونبيرغ ومجسدا لتراث مدرسة فيينا في العاصمة الفرنسية باريس. بعد احتلال النازي للنمسا التحق ماكس دوتش بالكتائب الدولية، التي شاركت إلى جانب الجمهوريين ضد الانقلاب الفرانكوي في إسبانيا، ثم كانت هزيمة الجمهورية الإسبانية والعودة إلى فرنسا والاحتلال النازي، والعمل السري، وقد أصبح الموسيقار مقاتلًا ضمن صفوف المقاومة الفرنسية. هكذا إذن ساند ماكس دوتش بوصفه مقاومًا في مشروعه الطامح إلى إكساب قصيدة درويش زخما وعنفوانًا بتعبيره، من خلال الكثافة الدرامية المقطوعة الموسيقية عن سياق الصراع الإسرائيلي العربي. لم يتردد الموسيقار المغربي في أن ينسج مع التقسيم والتوزيع الصوتي للقصيدة – وهي قصيدة أغنية قوية- مقاطع من وعد بلفور والافتراض الصهيوني الخاص بالاستيطان، وتصريحات الفهود السود، وهي حركة تنتمي إلى اليسار الجذري الإسرائيلي وتناضل ضد التمييز العنصري داخل إسرائيل، وتدافع عن ضرورة مفاوضات عادلة مع الفلسطينيين. يتعلق الأمر بسينوغرافيا غريبة تدرج موسيقيين يعبرون بطريقة استعارية عن شتات الفلسطينيين. جرت برمجة هذا الإبداع العالمي في مهرجان رويان، الذي يعتبر أحد أبرز المحطات الأوروبية للموسيقى الحديثة عام 1975، لكن جماعات ضغط موالية لإسرائيل المدعومة من بعض المنابر الإعلامية المشبوهة مارست تأثيرًا قويًا في منظمي المهرجان والممثلين، إلى درجة أدت إلى إلغاء حضور ومشاركة العرض. وقد وصل الأمر بجهات الرقابة، إلى درجة القول إنهم سيبذلون قصارى جهدهم كي يمنعوا نشاطًا من هذا القبيل داخل فرنسا. قدم الموسيقار العجوز ماكس دوتش، بهذا الصنيع للعالم درسا في الشجاعة والكرامة، بقراره تنظيم حفل يتم فيه إبداع العمل تحت إشرافه. وقد أسبغ على هذه النية بعدًا عاما، حين أعلن على شاكلة «سجل أنا عربي»: أعلن أنا ماكس دوتش يهودي من النمسا، إنني سأسير عمل تلميذي أحمد الصياد في خصوص قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش». وقد تم إنجاز العمل بالفعل خلال شتاء 1975 في باريس. كان هذا اللقاء بين الشاعر الفلسطيني والموسيقي المغربي الشاب والموسيقار اليهودي العجوز، درسا ما زلنا نستضيء به، بعد انصرام أزيد من أربعة عقود. وكان الفريق الذي قدم أعمال الشاعر عام 2009 في مسرح لا باليت في مدينة رينس الفرنسية، يضم عشرين عضوًا، كان أربعة منهم من اليهود. وإذا كانت صور محمود درويش صادمة ومباغتة ومخلخلة، فإن أقل ما يمكن أن يوصف به أنه ناحت صور. أما معجمه فيتسم ببساطة لا حدود لها بحكم اقترابها الدائم من الكائنات والأشياء البسيطة. كيف يمكننا إذن أن لا نفكر في بول أيلوار الشاعر المقاوم الذي أبدع عملًا ذا لغة شفافة وصافية ومفرطة في بساطتها. *عالم اجتماع فرنسي عن القدس العربي 26/8/2020 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |