|
عودة الى أدب وفن
الذكرى السادسة لوفاة الشاعر سميح القاسم - بروفيسور جمال زيدان
في التاسع عشر من آب 2014 رحل عنا شاعرنا الكبير سميح القاسم. واليوم وبعد ستة أعوام على رحيله نفتقده أكثر من ذي قبل ونشعر بالفراغ الأدبي والسياسي الذي تكون بعد رحيله أكثر وأكثر، فقد عاش شاعرنا 75 عامًا اتحف بها العالم بمؤلفاته الشعرية الغزيرة وكتاباته المتميزة.
وبالإضافة لموروثه الشعري العظيم كان سميح قائدًا قوميًا وسياسيًا، صال وجال في رحاب الوطن والعالم حاملًا هموم شعبه العربي الفلسطيني على كتفه مرتفع الهامة ومنتصب القامة. لم تخفه سجون اسرائيل ولا قمعها، اذ تم اعتقاله المرة تلو المرة، لكن سميح ازداد صلابةً وشجاعةً واصرارًا على المقاومة وسما بشعره إلى آفاق جديدة. شارك الجماهير العربية في بلادنا آلامها وكفاحها على كل المستويات: في المؤتمرات العالمية وحتى المظاهرات والانتخابات البرلمانية والسلطات المحلية. أذكر في أواخر الستينيات عندما كنت طالبًا في المدرسة الثانوية في قرية الرامة، عشية انتخابات المجلس المحلي في قريته تضافرت القوى الوطنية لإنجاح مرشحها المرحوم حنا مويس، وكان سميح ابن الرامة في الاقامة القسرية ومنع التجول في مدينة حيفا وكان ممنوعًا عليه مغادرة غرفته هناك، فأرسل سميح القائد قصيدة أنشدت في المهرجان الانتخابي في قريته الرامة وقد ألهبت الجماهير، فأقتبس منها بعض الأبيات: من قيود المنفى وعسف الإقامة فلتطيري رسالتي صوب رامه بلغي القوم أنني في أسري أرقب الفجر ناسجا أعلامه انا شعب غلو يديه فدوى في شرايينه نداء الكرامه فالنصارى يعاضدون دروزا ويُؤاخي دروزه اسلامه وفي تلك الانتخابات فعلًا انتصر الرفيق حنا مويس ليصبح رئيسًا وطنيًا للمجلس المحلي في الرامة. هذا يدل أن سميح عاش واقع شعبه وأمته المزركشة بالطوائف والجماعات وعرف كيف ينشر المحبة والتآخي بينهم، الشيء الذي نفتقده اليوم في عصر الردة، وتأجج التعصب الديني والهيمنة الدينية وتشرذم الأمة، عصر ملوك الطوائف وطوائف الملوك اليوم. كان لي الشرف أن اكون من الأجيال التي تربت على أشعار سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زياد وغيرهم من شعراء العروبة والوطن، شعراء المقاومة. وكما كتب عنهم شاعر مجهول تحت اسم الجليلي (مستعار) في جريدة الاتحاد قبل حوالي سنة: عرب أنتم نحن لا ننسى: تقدموا تقدموا وحبوبا وسنابل وسميحا ومحمودا وأبينا المتنبي: أنا بني يعرب لا ندعي لاب عنه ولا هو بالأبناء يشرينا. ولا عجب ان كان سميح فعلًا مولعًا ومعجبًا بالشاعر الكبير المتنبي وشخصيًا كان سميح فعلا يذكرني بالمتنبي. لا أريد هنا أن اتطرق إلى مدارس سميح الشعرية والنثرية والكولاج التي كتب عنها الكثير وسنرى أبحاث كثيرة وكتابات ودراسات أكثر عنها في المستقبل. سميح كان يغرف الشعر من نهر وما تميزت به مياه نهر شعره هي العذوبة، السلاسة، الرقة أحيانا والخشونة على الأعادي والمارقين من جهة اخرى. ومع كل معاناته برزت الروح الإنسانية كلون من ألوان شعره. اعذروني ولكن سأكتب عنه بشكل شخصي أيضًا: عرفت سميح من سنوات بعيده كصديق ومعلمي ومثلي الأعلى. كم تلاقينا واجتمعنا ومنها في بيته في الرامة. استشرته في كثير من الأمور الشخصية والاجتماعية. كان يصغي إليّ بحنان ومحبة ولكنه كان حادًا وواضح الرأي، كريم النفس واليد ولبقًا جدًا، وكل من قابل أو جالس سميح أعجب به حتى أكثر السياسيين الّذي كنّوا له عداوة لدودة. في إحدى المرات زرت سميحا في بيته مع أحد اخوتي (الذي لا يتعاطى السياسة ولا الشعر ولا الأدب) وطبعًا بعد نصف ساعة وكالعادة كانت أم وطن تقدّم لنا العشاء، وقد تسامرنا في ليلة لطيفة، وعندما غادرناه وكان أخي أول مرة يتعرف فيها على سميح قال لي أخي: "شو هالإنسان العظيم الكريم؟ شو هالحديث الشيق؟ أرجو ان تخبرني عندما تزور سميح لآتي معك لزيارته أيضًا في المرة القادمة، كان يتراءى في مخيلتي ان شاعرًا كبيرًا مثله لا يكلم او يجالس احدًا". هذا هو سميح الشاعر الانسان وأستطيع ان أقول حبيب الجماهير. عندما مرض سميح قبل وفاته بثلاث سنوات ونيف كنت في مؤتمر طبي في مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة. وعندما عدت للوطن وللعمل في مشفى زيف في مدينة صفد الجليلية كان سميح في قسم الأمراض الباطنية وقد تم تشخيص مرضه والكل في انتظار عودتي لأقدم له الاستشارة عن ورم في اوعية المرارة وكان قد انتشر حينها في الكبد. أول ما قاله وسأله سميح: قل لي الحقيقة كما هي ولا تخف علي: كم سأعيش؟! كانت هذه صدمة كبيرة ومؤلمة لي. هذا سميح القاسم الكبير شاعر الوطن العربي، أي مسؤولية تاريخية ووطنية ملقاة على كاهلي. وهنا أعترف لذوي سميح ومحبّيه أنّني عندها أخبرته بالحقيقة وجلسنا بعض دقائق اعتذرت منه وأخبرته أني سأعود اليه بعد وقت قليل. أتدرون لماذا؟ لأنّني هرولت إلى غرفتي الشخصية في قسم الأورام الذي أديره وحاولت التماسك وتمالك نفسي، وشعرت بالاختناق وبأن الأرض تبتلع من عليها. وصلت باب الغرفة ومع فتح الباب ودخولي كانت الدموع تملأ عينيّ وهذا ما أردت ألّا يراه سميح والعائلة معه. انا لا أحب خسارة أصدقائي، فكيف ان يفقد الوطن شاعره؟ بعدها حبست آلامي وعدت إليه بشخصية طغت عليها شخصية الطبيب هذه المرة. في سنوات ثلاث لعلاجه ورغم مضاعفات الادوية غير السهلة، كان سميح يهتم بكل أشيائي الخاصة، يلاحقها كما في الماضي أو أكثر (ويسدي لي النصائح)، في مئات اللقاءات في المشفى وفي بيته اكتشفت فيه أشياء ربما لم يلاحظها غيري: شجاعة بلا حدود وعدم الخوف لا من الموت ولا من شيء آخر، أحبّ العروبة والوطن حتى النخاع، وكان شفافًا ولديه صراحة منقطعة النظير. ومع كل ذلك كان صادقًا وبريئًا كبراءة الاطفال وروحه رقيقة جدا ومشاعره فياضة. في كل سنة سيأتي شهر آب مع شمسه الدافئة: وخيراته وأزهاره ولكنّه لن يستطيع اذابة الصقيع الذي جمد مشاعرنا بعد رحيلك يا أخي ومعلمي وكما قلت انت: فابك في الغربة عمرا ضائعا وارث عيشا كان حلوا مستطابا عل نار الشجو تذكي نجوة في الاولى اعتادوا مع الدهر المصابا وأخيرا أقول لروحك الطاهرة، لم ينضب شوقنا وحنيننا اليك وكما قال الشاعر الاندلسي ابن زيدون في فراق الأحبة: بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقا اليكم ولا جفت مآقينا حالنا اليوم تماما كما تنبأت به انت في إحدى قصائدك بقولك: يا بلادي نحن ما زلنا على قسم الفدية شوقا وارتقابا يا بلادي قبل ميعاد الضحى موعد ينضو عن النور حجابا نكبة التيه التي اودت بنا عممت سكينها في جرحنا وجرت في دمنا سما وصابا عن الاتحاد 19/8/2020 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |