عودة الى أدب وفن

الفيلم المصري «سُعاد»… قفزة على بُعد خطوة من مهرجان كان - كمال القاضي
ليست الحداثة أو التجريب أو الاستغراق في التهويم أو الكوميديا المبالغ فيها، أو الأكشن بمخاطرة ودهشته، هي الأفكار والألوان التي كانت وراء اختيار مهرجان كان في دورته الثالثة والسبعين للفيلم المصري «سُعاد» للمخرجة أيتن أمين ليكون ضمن الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية، والمنافس الوحيد للفيلم اللبناني «مفاتيح مكسورة» للمخرج جيمي كيروز، في إطار الإسهام العربي بالدورة التي تم إلغاؤها تجنباً للإصابات المحتملة بفيروس كورونا.

لقد جاء الترشيح وفق مُعطيات التميز ومكامن الإجادة والتنفيذ للفكرة المحلية التي انطلقت منها المخرجة، لتكون نواة لقضية كبرى هي الأكثر أهمية في الواقع الراهن للفتاة المصرية الدائرة في فلك الفراغ اليومي، والأحلام المُجهضة، والذات المنسية المحاصرة بالمشاكل الاجتماعية والمشحونة بضغوط فوق احتمالها، فهي العنصر الفاعل بغير جدوى والمنتمي بلا هوية في إقليم منفي بالكامل، بعيداً عن إشعاعات الضوء المتمركزة فقط داخل العاصمة، التي صارت مهرباً، غير آمن للوافدين من البلاد الطاردة.

سعاد هي بطلة الفيلم التراجيدي الإنساني الذي يقتحم بجرأة واقع المرأة المصرية، فينزع عنه الغطاء المزخرف ليبدو على حقيقته بلا تزييف، إذ تمثل البطلة نموذجاً لآلاف الفتيات اللاتي يعشن في العالم الافتراضي السحري على السوشيال ميديا هروباً من المواجهة الفعلية لتحديات العُمر، ووتيرة الزمن المتسارعة بلا انقطاع، في سباق محموم على الضياع والمراهنات الخاسرة في بورصة الأماني الكاذبة والوعود المستحيلة بالزواج والاستقرار، فحين تتكشف الحقائق المريرة، يكون السيف قد سبق العذل، بضياع الحُلم وفقدان الطموح والسقوط المدوي في براثن الخطأ والخطيئة، إثر علاقة سرية بدأت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتطورت تطوراً سلبياً فأودت بحياة الفتاة المُغرر بها، حيث كان الانتحار خيارها الوحيد.

لقد جعلت المخــــرجة أيتن أمين من تلك الحالة، محوراً لأحداث فيلمها المعنون باسم البطلة الضحية، التي جاء انتحارها صرخة مدوية في الفضاء الإلكتروني، لتحذر من مغبة الإهمال الأسري والعائلي، قبل التحذير من الاستغراق في التفاعل الوهمي لإقامة علاقات سرية خاصة، لقتل الفراغ وتعويض الاحتياجات الناقصة في حياة الشباب والفتيات، بمقابل باهظ كثمن للمتعة العارضة قصيرة الأجل.

إنها اللغة السينمائية الخاصة التي اعتمدتها أيتن، لتكون وسيطاً متطوراً يعبر عن المشكلات النوعية لعصر التكنولوجيا بأخطارها الزاحفة المتغلغلة في المجتمعات الشرقية، من دون احتياطات السلامة والأمان، وربما لاختلاف الطرح ونوعية القضية. جاء الدافع الرئيسي لاختيار فيلم سعاد للمشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان كان الأعرق والأكثر عناية بالنوعيات الإنسانية من الأفلام الطارحة لمعاناة شعوبها وقضاياهم.

ومن دواعي الاهتمام بفيلم «سعاد» كنموذج لسينما مغايرة، أن أبطاله ليسوا من النجوم المعروفين، فقد تم اختيارهم من بعض المدن والقرى الإقليمية في منطقة الدلتا ليُطلوا على الجمهور لأول مره عبر الشاشة الكبيرة، في إيحاء مقصود بأنهم أبطال حقيقيون للأحداث، لتسهيل وصول الرسالة وإزالة الحاجز النفسي بين المُرسِل والمُستقبل، فبسنت أحمد وبسملة عبد الحليم وحسين غانم، ما هم إلا وجوه جديدة، نجحت في اختبار التمثيل الصعب بتقدير فائق، كان دليلاً على مواهبهم الكامنة، واستعدادهم وحضورهم المتميزين، غير أن الخلفية السينمائية والثقافية للمخرجة كانت أيضاً عاملاً أساسياً في استهدافها للفكرة الإنسانية الاجتماعية المُتضمنة بالفيلم، فهي كاتبة سيناريو وممثلة، وسبق لها تقديم تجارب مُعتبره بدأت بمشروع التخرج عام 2006، إذ قدمت فيلمها القصير «راجلها»، وهو الذي أثار حولها ضجة لجرأة التناول، كما أنها قدمت أفلاما أخرى لفتت إليها الأنظار، كان من بينها فيلم قصير عن حياة النجمة الراحلة مديحه كامل، وفيلم «التحرير» 2011 – الطيب والشرس والسياسي في إشارة للصراع، الذي كان محتدماً بين الفئات الثلاث، وفي عام 2013 كان فيلمها الأهم «فيلا 69» عن مأساة مريض الإيدز الذي قام ببطولته خالد أبو النجا، مُجسداً شخصية الرجل الأربعيني المأزوم، وهو الفيلم الذي رفع أسهمها ووضعها في مصاف المخرجات الأكثر انحيازاً لسينما الإنسان والمجتمع، فضلاً عن أن أيتن كانت لها إسهامات أخرى مهمة ككاتبة سيناريو، حيث شاركت في كتابة فيلم «69 مساحة» وفيلم «ربيع 89»، انطلاقاً من اهتمامها بالنواحي النفسية والذهنية، ورصد المتغيرات والاضطرابات التي تنتاب الشباب في مرحلة المراهقة، كبداية للتحول السلوكي في حياتهم الخاصة والعامة. وتشير كل هذه المحطات إلى وعي المخرجة التي درست في الجامعة الأمريكية في القاهرة، واحتكت بأنماط عديدة من الثقافات المختلفة، إلا أنها ظلت متصلة بهموم المواطن البسيط ومشكلاته الحيوية لتقدم نموذجاً موضوعياً، لأهمية أن يكون هناك هم عام لدى الفنان والمبدع والمثقف، يشكل مسيرته وفق قناعاته وما يؤمن به.

عن القدس العربي
15/7/2020






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com