|
عودة الى أدب وفن
عمر الشريف وفن التمثيل: الإلقاء والتناغم والتبدل الجزئي - مروة متولي
في عالم عمر الشريف السينمائي نجد الثراء الفني الهائل والتنوع اللغوي والثقافي، وتعدد الأساليب وتقنيات الأداء التمثيلي، والرحلة الطويلة التي تمتد مكانيا من الشرق إلى الغرب، وزمنيا في مراحل عمرية مختلفة من بدايات الشباب وصولا إلى سنوات النهاية التي واجهها بشجاعة وابتسامة راضية، وبالتمثيل والإبداع، إلى أن لم تعد قوته تسمح له بالعمل. أما موهبته التي لم تضعف مع التقدم في العمر، وكانت تكتسب المزيد من العمق والخبرة والاحترافية، فإنها لم تخذله حتى آخر لحظة، وإن خانته بعض الأفلام التي لم يتم تنفيذها بشكل جيد، وعلى الرغم من ذلك تظل مشاهده الخاصة في هذه الأعمال الفنية ممتعة بحضوره الساحر، الذي نرغب في التحرر منه أحيانا للتمكن من تأمل موهبته التمثيلية ومحاولة فهمها بدقة، لكي لا نخطئ في تقديرها.
والحق أن الشخصية الجذابة والكاريزما الطاغية والروح المضيئة، وكل هذه الأمور الرائعة، تكون في بعض الأحيان عائقا في سبيل الممثل، ومشكلة تزيد من صعوبة الاندماج والتلاشي في الشخصية التي يقوم بتجسيدها، ويكون عليه أن يجد الحل أو الطريقة التي تحقق الإقناع، نظرا لاستحالة قيامه بالاستبدال الكلي، كما في حالة عمر الشريف الذي كان يواجه هذه المشكلة، وتحديدا في الأدوار التي تتطلب تغييرا في هيئته، ومطابقة في محاكاته للبطل الذي يلعب دوره، ونرى أنه كان يعتمد طوال الوقت على التبدل الجزئي بدرجات متفاوتة، تقترب أحيانا من إخفاء الحضور الفعلي لعمر الشريف، وتجعلنا ننسى وجوده إلى حد ما، في أفلام أجنبية مثل «تشي»، «راقب الحصان الشاحب»، «ليلة الجنرالات» و«لورنس العرب»، وأفلام عربية مثل «أيوب» و«الأراجوز» و«صراع في الميناء»، وفي أحيان أخرى تستسلم الشخصية الخيالية لعمر الشريف، ويكون ذلك في صالحها تماما، كما في فيلم «فاني غيرل» وفيلم «بذور التمر هندي»، وبعض الأفلام العربية مثل «نهر الحب» و«أيامنا الحلوة» و«سيدة القصر». ويمكن القول إن عمر الشريف اقترب من الاستبدال الكلي بدرجة كبيرة، في فيلم «تشي» عندما لعب دور غيفارا، البطل الثوري الشجاع والمحارب القوي العنيد، واعتمد في ذلك على التخلي عن الكثير من الصفات البشرية لإظهار مدى اختلافه وتفرده التام عن أقرانه، وكل من يحيطون به، وبالإضافة إلى المحاكاة والمماثلة للشكل الأيقوني الشهير لغيفارا من لحية وسيجار وثياب عسكرية، بذل عمر الشريف الجهد الكبير في استخدام الوجه الكاذب طوال الوقت، لكي يصور لنا الاشتعال الداخلي للشخصية، وما يثور في أعماقها من غضب عارم ورفض قاطع، ورغبة أصيلة عتيقة في التغيير وإن كان دمويا، بدون أن يظهر أي انفعال قوي عند الفرح والحزن، أو الخوف في لحظة مواجهة الموت، حتى قرارات الإعدام كان يوقعها ببرود كامل، مع التحكم في نظرة العين لعدم إظهار المشاعر، كما غيّر من شكل جسده ومرونته في الحركة والسكون، وأحاطه بهالة تجعله يسمو قليلا فوق البشر، ولا نقصد بذلك العجرفة، وإنما التميز والعظمة، خصوصا في مشاهد موته ونقل جثمانه بعد الوفاة، حيث يتمدد الجسد المتصلب الخالي من الحياة بلا أي تعبيرات، ورغم ذلك يقول لنا بطريقة ما أنه جسد غير عادي لرجل غير عادي، أما تكنيك التنفس الذي اتبعه عمر الشريف في هذا الفيلم، فلا شك في إنه كان صعبا للغاية، لكنه كان مؤثرا ودقيقا في التعبير عن آلام غيفارا ومعاناته مع مرضه الصدري، ولم يتخذ الطريق السهل بأن يسعل في كل مشهد وكفى، وإنما وضع نظاما كاملا للتنفس بشكل عام طوال الفيلم، وفي اللحظات التي يشتد عليه فيها المرض، وكان عمر الشريف يضغط على تنفسه ورئتيه، إلى درجة إننا نستمع إلى أزيز صدره بالفعل. وفي فيلم «راقب الحصان الشاحب» الذي هو من أجمل أفلامه، التي تظهر أعمق خفايا موهبته وأرقى فنونه في الأداء التمثيلي، حيث قام بتجسيد شخصية القسيس فرانسيسكو، الذي تتجمع عنده كافة خطوط الفيلم الدرامية، وتتوقف الأحداث وتطورها على ما سيقرره وما سيتبعه من مسارات، ويخلو هذا الفيلم من أي بطولة نسائية، وتكون أغلب مشاهد عمر الشريف مع غريغوري بك وأنتوني كوين، ويكون مرتديا ثياب رجل الدين طوال الوقت، ولا يعتمد على وسامته أو مظهره الخارجي، وقد سخر كافة جوارحه ومشاعره وملامح وجهه من أجل إظهار البراءة والطيبة والرفق والرحمة، ومدى معاناته للحفاظ على إنسانيته، وسط الدم والكراهية والبطش والقسوة، ويبلغ عمر الشريف قمة الأداء في مشهد النهاية، عندما يقف وراء النافذة يتأمل كل ما حدث باكيا، ويبدو في عينيه الذعر الشديد، ليس خوفا من عقاب القائد العسكري «فينيولاس»، الذي عفا عنه لكي لا يصطدم بالكنيسة، وإنما كان رعبه من ذلك العالم الذي اكتشفه رغما عنه، ولم يستطع الخروج منه سالما والعودة إلى عالمه الأول المثالي في كنيسته، وببراعة فائقة يبدل عمر الشريف ملامحه في ثوان قليلة، وتفقد عيناه تلك البراءة التي قتلها الدم، وأمام الدم تضاءل كل شيء، وفقد معناه بالنسبة له، بما في ذلك قانون الدولة وقانون الكنيسة، ثم تتحول النظرة إلى الرعب من هول الفراغ الذي عليه أن يواجهه. يعد الإلقاء والإدارة الجيدة للصوت، من أهم نقاط القوة لدى عمر الشريف، لأنه يحافظ على الإيقاع العام للشخصية وموسيقاها الداخلية والخارجية، من خلال صوته، ولا يعتمد في ذلك على الحركة الجسدية، أو بعض الإيماءات والإشارات، وقد يبدو للبعض إنه لا يمتلك النبرات القوية والرنين المسرحي، ويتخبط تائها بين اللكنات في أفلامه الإنكليزية والفرنسية والإيطالية، كما تُظهر بدايات تمثيله وأفلامه العربية الأولى بعض المشكلات في اللفظ، والأخطاء في إصدار الصوت ونطق الحرف، وكل هذه العيوب التي نجح في مغالبتها، واستطاع التخلص منها سريعا، وصار متحكما في صوته مدركا لطبيعته، ولا يكتسب الممثل هذه المقدرة الصوتية إلا بفضل السماع المرهف والأذن الموسيقية، ويعتمد إلقاء عمر الشريف على إرخاء الصوت، وحسن التقطيع، وتنسيق الأوزان والحركات، والاستيعاب المتمهل للكلمات ومنحها رونقا شاعريا بليغا، وقد يظن البعض أيضا إنه يتحدث اللغات الأجنبية بلكنة مصرية، وينطق اللهجة المصرية بلكنة إنكليزية وتنغيم فرنسي، لكننا نظن إنه كان في حقيقة الأمر يتحدث جميع اللغات بلكنة واحدة هي «لكنة عمر الشريف» الجميلة الساحرة التي تحبها الأذن، وتقبلها دائما في جميع أفلامه، وتكون الحل الفني الأمثل الملائم للشخصية الخيالية، المتسق مع طبيعتها وإن كان بعيدا عن لكنتها الأصلية، ولا يعني ذلك أنه يتكلم في جميع أفلامه بطريقة واحدة جامدة لكنه يستخدم لكنته الخاصة ويلونها ويغير من إيقاعها وإحساسها، ويخلق التوافق بينها وبين الشخصية التي يجسدها، ولنا أن نتخيل لو قام عمر الشريف بتغيير صوته الهامس الحنون، ولكنته الرقيقة الناعمة في فيلم «دكتور جيفاغو» إلى لكنة روسية خالصة، كان يستطيع أن يقلد خشونتها وصلابة حروفها التي تلفظ بشكل ثقيل جدا، ألم يكن ذلك كفيلا بهدم رومانسية هذا الفيلم العظيم، وتحطيم شاعرية البطل وحساسيته البالغة. والأمر نفسه في فيلم «بذور التمر هندي»، حيث جسّد شخصية الروسي فيودور، الذي يقع في غرام الإنكليزية جوديث، التي لعبت دورها الممثلة البريطانية جولي آندروز، وقد أضفى سحرا على هذا الفيلم العاطفي بوسامة زادها ظهور الشعر الأبيض، وجرعات زائدة من الجاذبية والبراعة في تأدية مشاهد الحب، وجمال المظهر وروعة التمثيل، وقد رسم صورة خيالية للشخصية الروسية، ليست حقيقية تماما، لكنه يقنعنا ويجعلنا نصدق كل شيء، ويثبت أنه يستطيع أن يكون روسيا بدون اللغة واللكنة، وتقمص النفسية والسلوك، كما إنه لم يعتمد على اللكنة الألمانية في فيلم «ليلة الجنرالات»، أو الأرجنتينية في فيلم «تشي»، ونستطيع أن نجد الكثير من الأمثلة المشابهة في بقية أفلامه، ونلاحظ أن فيلم «أيوب» يعتمد بشكل أساسي على الإلقاء والأداء الصوتي، فهو يمثل أغلب مشاهده فوق كرسي متحرك، ويردد أفكار نجيب محفوظ الفلسفية، في فيلم أشبه بالمونولوغ الداخلي، والحوار الطويل مع النفس، ويظهر فيلم «تشي» أيضا براعته في الإلقاء، لا من خلال الخطب الرنانة التي يتوقع المشاهد سماعها في فيلم كهذا، ولكن من خلال المونولوغ الداخلي أيضا، الذي نستمع إليه في بداية الفيلم، ثم يتكرر بعد ذلك، وتصاحبه أحيانا موسيقى هادئة بإيقاعات لاتينية بطيئة، ونستمتع بالإلقاء الشعري البديع ومناجاته لكوبا والحرية بشكل عام. وربما يكون السر وراء براعة عمر الشريف في الإلقاء، هو أنه بدأ التمثيل باللغة الإنكليزية على مسرح المدرسة في حي شبرا في القاهرة، كما يروي في حوار تلفزيوني لبرنامج «أهلا 85» وتدرب على الكثير من أشعار شكسبير، وعندما نستمع إليه يقرأ قصيدة «تايغر» لوليام بليك على سبيل المثال، نشعر بمدى تمكنه من الإلقاء الشعري بجمال وبساطة موحية مؤثرة، وقد عاد عمر الشريف إلى المسرح بعد سنوات طويلة، لكن في لندن التي مثّل على مسارحها «الأمير النائم» مع جودي كامبل، ولأنه كان يستطيع أن يستخدم صوته جيدا، مكنه ذلك من الغناء أيضا، كما في فيلم «فاني غيرل» وأغنية أراجوز الشهيرة في فيلم «الأراجوز»، كما غنى بعيدا عن السينما، وأصدر بعض الألبومات، وأعاد غناء بعض القطع الشهيرة مثل أغنية فيلم «كازابلانكا» الكلاسيكية الخالدة عن الحب، والكثير من الأغنيات باللغة الفرنسية والإيطالية والإسبانية، وهي أغنيات تستمد قوتها وقيمتها الفنية من الحضور الشخصي لعمر الشريف، الذي يتعامل مع الغناء كنوع من الإلقاء أيضا. أما التناغم الذي يستطيع عمر الشريف أن يخلقه بمهارة مع الدور الذي يلعبه أو الشخصية التي يجسدها، فإنه يغنيه عن الاستبدال الكلي والاندماج الصرف، وقد يكون أفضل وأبلغ في بعض الأحيان، وهذا يتم بالاعتماد الرئيسي على العقل والإدراك الواعي، الذي يقي الممثل من التشويش الذي يصيب جهازه العصبي أحيانا، بالإضافة إلى المحفزات الخيالية وتقوية الإحساس والتنسيق الداخلي للمشاعر، وهذا ما يجعل عمر الشريف يمتلك أقوى وسائل الإقناع الفني، ويمكّنه من لعب أكثر الأدوار بعدا عن شخصيته ولغته وجنسيته وثقافته، وهو لا يخلق التناغم مع الشخصية الخيالية فقط، وإنما يخلقه أيضا مع الممثل المقابل، فالمشاهد الثنائية سواء اعتمدت على الحوار البصري أو الكلامي، هي الميدان الذي تتجلى فيه مواهبه التمثيلية، ويكون عمر الشريف في أقوى لحظاته الفنية عندما تميل هذه المشاهد إلى المواجهة. عن القدس العربي 22/6/2020 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |