|
عودة الى أدب وفن
دهشة الأدب - زينة حمود
سمّي الشاعر شاعراً لأنه يفطن ما لم يفطن له غيره، فلفظ الشعر يحمل دلالات لغوية عدة؛ وهي العلم، والمعرفة، والفطنة، والدراية.
والشعر العربي هو شكل من أشكال الفن الأدبي ومرّ في مراحل عديدة من قصيدة العمود الى الموشح الى الشعر الحر التفعيلي، الى قصيدة النثر وصولاً الى ما سُمّي بالتوقيعة والومضة. فالشعر فضاء كبير يتحرّر يوماً بعد يوم من قيود الماضي من حيث المضمون، ومن حيث الأسلوب واللغة، ومن حيث الأوزان والقوافي ويسعى الى فتح آفاق جديدة مختلفة، فكما الكون يتغيّر مع مرور الوقت كذلك الأدب والشعر بحاجة الى فكر فلسفي مغاير يخرجه من دائرته المحدودة الى فضاء اللامحدود. ومن هنا نشأت فكرة الأدب الوجيز هوية تجاوزية جديدة تتجاوز الماضي كله وتعمد الى وضع بصمة جديدة مختلفة… تعتمد بشكل كبير على وعي وإدراك المتلقي ومجاراته للعصر الراهن، هدفه النهوض بالادب من خلال استخدام التكثيف – الإيجاز – الاتّساع الدّاخليّ للطاقة الشّعوريّة – فتق آفاق التّخيّل – كسر أنماط الحواس – المعنى يُحدِّدُ شكله – الدهشة وخلق ظاهرة جديدة، لا تعتمد على مقاييس قديمة طرحها البعض للحكم على جودة الشعر ورداءته بل التجديد. يقول يوسف الخال: «نحنُ نجدّد في الشعر، لا لأنّنا قرّرنا أن نجدّد، نحنُ نجدّد لأنَّ الحياةَ بدأت تتجدّد فينا، أو قُل تجدّدنا، فنجاحنا مؤكد ولا حاجة لنا بأي صراعٍ معَ القديم. القافية التقليدية ماتت على صخَبِ الحياة وضَجيجها والوزنُ الخليلي الرتيب ماتَ بفعلِ تشابك حياتنا وتغير سيرها. وكما أبدعَ الشاعرُ الجاهلي شكله الشعريّ للتعبير عن حياته، علينا نحنُ كذلك أن نبدع شكلنا الشعريّ للتعبير عن حياتنا التي تختلفُ عن حياته». فنحن من خلال الكلمة والمفردة نعمل على تحرير اللغة من مفردات ألصقت بها على مدار التاريخ تحمل في طياتها المعنى اللغوي والاصطلاحي، الى المعنى الدلالي فتصلح الكلمة لأن تكون متعددة المعنى، إطاراً جديداً يعتمد على تحرير الكلمة من اسمها وصفاتها، عطاءتها، مُترادِفاتِها، وجزالة وفخامة ألفاظها، ورقّتها، ووضوحها، وتناسُب مخارج حروفها وأصواتها مع المعنى… مثلاً كلمة الشَّجَرُ في اللغة تعني: نباتٌ يقوم على ساقٍ صُلبة وقد يُطْلَقُ على كلِّ نبات غير قائم… ولكن بمفهوم الشعر تختلف، فقد تكون الشجرة هي الإلهة، الأم، الحبيبة، الصديقة، السند، الابنة، الكون، الوجود، العطاء اللامحدود…. فالشاعر عندما تتملكه لحظات الإبداع، يقوم برحلة استكشافية يغوص في عالم الوجود والموجودات ولا يعمد الى انتقاء اللفظة بقدر ما يعمل على نقل مشهدية او رؤية او لحظة يعيشها، لينقلها الى المتلقي كما هي، ليعمل بعد ذلك المتلقي على تحليلها وفهم أبعادها التي يحتاجها كل حسب ظروفه، وتطلعاته… فغاية الادب الوجيز هي السمو بالادب الى عالم اللامحدود من خلال ومضات او قصص وجيزة معتمداً بشكل أساسي على الدهشة. وفي هذا السياق المعرفيّ النقديّ ننظر الى ثلاث ومضات للشاعر امين الذيب لدراسة الدهشة. لم تزل النجوم التي سقطت عن جسدها ذات ليل مجنون عالقة في شغفي لقد جعل الشاعر حبيبته إلهة من آلهة السماء تغزو الفضاء واختار لفظة نجوم للدلالة على العلو والارتفاع والسمو عن البشر، وفي لحظة من لحظات الإبداع تسقط من جسدها النجوم بعد علاقة جمعتهما، سقطت ربما الخطيئة بعد ليلة وصفها بالجنون جمعت عاشقين يتوقان الى اللقاء وتحدّيا بلقائهما العادات والتقاليد، المجتمع، العائلة، لإطفاء نار العشق التي تملكتهما لأعوام والدهشة تأتي أن هذه النجوم عالقة في شغفه. فهذا دليل أن هذه الليلة المجنونة التي عاشها قربها هي في خياله فقط. فالشاعر لم يستطع كسر عقبات المجتمع وتقاليده بالفعل، ولكنه أبدع في كسرها بالمشهدية الشعرية بحسن اختيار الالفاظ والكلمات لينزح بها الى عالمه. لم أشأ بعثرة أوراقي الريح هوجاء ودفاتري طين وصلصال هنا يعبر الشاعر عن لحظة عصيبة يفتش فيها عن حقيقة وجوديّة ضائعة مرّت على دفنها سنون عديدة، لكنه يقرر فجأة أن يتحدى كل الظروف ليكشف حقيقة المستور واختار يوماً عاصفاً ليبحث بين أوراقه المنسية التي تحمل توقيعات الماضي، ولكن المفاجأة كانت بأنه وجد دفاتره اصبحت طيناً بفعل مرور السنين وتعرض الأوراق للرياح والعواصف، فضاعت الحقيقة بعد أن تحوّلت الى جماد….. رسمتك على غمّازات نجمة ووعدتُ حقولي بالمطر الشاعر هنا يعيش الإبداع، برسمه حبيبته ويختار مكاناً عالياً لكي يرسمها فهو لم يختر رسمها بالريشة والقلم بل رسمها بإبداع العاشق، الرائي الى ما ورائيات، رسمها على جدار الفضاء، مختاراً نجمة معينة، من بين نجمات السماء المنتشرات، وقام برسمها على غمازات تلك النجمة، امرأة لا تشبه باقي النساء، امرأة عارية من ملابس الوجود، امرأة تزرع الحب بوجودها، هي العطاء بذاته، هي الحب الأكبر لكل الوجود، لذلك يعد الأرض بالمطر من دموعها ربما او من عشقها اللامتناهي، فالدهشة هنا بتحويل الحبيبة، الرفيقة الإنسانة، الى امل، للأرض بالارتواء بعد عطش جفّف باطنها، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على الإيمان بتلك الحبيبة وبعطاءتها التي لا تزول.. الدهشة هي سر الومضة وخفاياها التي لا يمكن لأي امرئ أن يكتشف ابعادها الا اذا كان فعلاً يتمتع بذائقة شعرية ومخيلة واسعة، نشطة، لا حدود لها، فيقوم الشاعر بكتابة الومضة الشعرية بكل أحاسيسه ومشاعره على اختلاف أهوائها، ويترك للمتلقي رموزاً جوهرية، تشعل مصباح مخيلته، لاكتشاف سر العلاقة الإبداعية – الأبدية، التي لا حدود لها بين الكون والانسان. فالأدب الوجيز هو أدب العاشقين للغة من خلال الكلمة الكثيفة، التي تفتح الآفاق لكل قارئ حكيم لا ادب العاجزين، واصحاب النفس القصير كم يدّعي البعض، فهو أدب جديد سيغزو العالم كله عما قريب من خلال هويته التجاوزية التي ستسمح له بتخطي كل مطارات العالم.. عن جريدة البناء 18/3/2020 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |