عودة الى أدب وفن

الوقائع الغريبة في «تشاؤل» الفلسطيني محمد بكري - سليم البيك
قد نقول إن التماثل البين بين الفلسطيني محمد بكري، وسعيد أبي النحس، هو لتأثر الأول بالثاني، الأول كممثل والثاني كشخصية، الأول كواقع والثاني كخيال، لكن يمكن القول إن التماثل المذكور هو كذلك لحقيقة كل منهما، كفردين في مجتمع له تعقيداته الخاصة، الفلسطيني في دولة إسرائيل.

لا يكتب الممثل أدوارَه، لكن الأدوار أحياناً تهتدي إلى مجسدها الأنسب، وحين تتقارب هذه الأدوار من تعقيدات هذا المجتمع، لا بد أن تنحاز إلى ممثل أدى ويؤدي هذه الأدوار كأنه يعيشها (أو لأنه يعيشها)، ثم – لا بد- أن يتماهى كل من النص المكتوب للشخصية، مع مؤدي تلك الشخصية وهو هنا محمد بكري، فيتكرر ظهور اللابطل في رواية المعلم إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» عام 1974، في كل أداءٍ لبكري. ليكون، أخيراً، بكري هو متشائل حبيبي، وسعيد في الرواية هو بكري.

شخصياً، لا أستطيع تخيل سعيد هذا كلما قرأتُه بشكل لا يُبنى على هيئة محمد بكري: الشاربان، الخط المحفور على الخد، النظرة الشفافة التي تفضح مزيجاً من القلق والتمرد. أقول ذلك وأنا لم أشاهد بعد مسرحية (أو: مسرحيدية) «المتشائل». لكن، من فكرة المسرحية وغيرها، تَشكل لديّ هذا التماهي بين الشخصية والشخص.

سأسرد أمثلةً هنا أدلل بها على التماثل بين محمد وسعيد، وكلاهما تمثيل جوهري لنفسية وذهنية عموم الفرد الفلسطيني في «الـ 48»، الخاضع لحكم إسرائيل «ولقوانينها»، مهما كانت نسبة التمرد لدى هذا الفرد أو ذاك، أعلى أو أقل من نسبة القلق.

لما يقارب 35 عاماً، مثّل محمد بكري مسرحية «المتشائل» المأخوذة عن رواية حبيبي، داخل فلسطين وخارجها، لتَعلقِ بكري بحبيبي، كما يمكن أن يلاحظ أحدنا (وهو تعلق عام لفلسطينيي الـ 48 به وبأدبه) ولكل هذه السنين في تأدية المسرحية، وقد تماهت صورة محمد بصورة سعيد، لمشاهدي المسرحية أولاً (كما يمكن أن أتخيل) ولآخرين لاحظوها بدون المُشاهدة (كما أفعل). هذا التماهي مدّه بكري من المسرح إلى السينما، وهذه ملاحظتي التي بنيتُها على مشاهدة أفلام مثّل بكري أدواراً متنوعة فيها، هي أدوار تحوم حول سعيد المتشائل، الذي بقي مرجعياً لدى بكري في السينما، وأذكر أنني لا أتحدث عن أدوار كتبها بكري بل مثّلها، وكان هذا التمثيل (بمعنيَي الكلمة) مبنياً – انتبهَ كاتب الشخصية ومخرجُها لذلك أم لم يفعل- على المتشائل، أو لأكون أكثر دقة أقول: على تماهي محمد مع سعيد.

المتشائل الذي في الرواية، هو المرتبك المحتار في كيف يتعامل مع هويته الوطنية من جهة، ومع حالة الاحتلال من جهة، هو كتلة التناقضات الثماني والأربعينية، مجسدة في رجل، هو القلِق، هو المتمرد، هو الذي يعيق قلقُه تمردَه، هو – كي نفهم أكثر- شخصيات أداها بكري، منذ «حنة ك» عام 1983 لكوستا غافراس، إلى «واجب» عام 2017 لآن ماري جاسر، مروراً بـ«حيفا» عام 1997 لرشيد مشهراوي، وبنسبة ما، «زنديق» عام 2012 لصاحب بعضٍ من أهم أفلام السينما الفلسطينية، ميشيل خليفي. نضيف إليها بعض أدوار أقصر أو في أفلام قصيرة، (عُرض معظمها في مهرجان السينما الفلسطينية، سينيبالستين، في تولوز الفرنسية قبل أيام).

إن أخذنا هذه الشخصيات كلها، وفيها شاهدنا سعيد من خلال بكري، سندرك أكثر معنى «المتشائل» فلسطينياً، سندرك أكثر هذا التمرد القلِق، وأحياناً القلَق المتمرد، الذي يعيشه فلسطينيو ثماني وأربعون.

إضافة إلى السينما والمسرح، وإلى محمد بكري كممثل، كان لبكري دور فاعل كمخرج، في تصوير هذا التماثل، من خلال فيلمه الوثائقي «من يوم ما رحت» عام 2005، وفيه يخاطب إميل حبيبي، يحكيه عن الحال الفلسطيني منذ رحل عام 1996، خاصة عن تبعات فيلم بكري الوثائقي «جنين جنين»، عام 2002، وملاحقاته وتهديداته على إثره، كأنه يشكي حاله إلى حبيبي الذي منحه شخصية المتشائل. كذلك في الوثائقي «1948» عام 1998، وهو وثيقة أساسية في طرح فرضيتي لهذا التماثل، في جانب بكري، مونتاجياً، في فيلمه شهادات لناجين من النكبة، عن الكارثة الفلسطينية، بمشاهد من مسرحية «المتشائل» التي تحكي (كالرواية) عن النكبة وآثارها في نفسية أهلها وأذهانهم، ليكون بكري الممثل، هنا، في الوثائقي، بكري المخرج، وليكون بكري/كلاهما هو حالة فلسطيني الـ48.

في لحظة ما من حياة بكري الفلسطيني/الممثل/المخرج، غلب التمردُ القلقَ، ولقي إجابة على سؤال كيفية التعامل مع حالة الاحتلال، فنزل عن الخشبة وحمل الكاميرا وخرج إلى مخيم جنين وصور فيلمه، وماتزال إسرائيل تلاحقه حتى اليوم، بعد 18 عاماً. كان «جنين جنين» هو الإجابة، وبقي بكري المتماهي، متشائلاً، مع أهله.

* كاتب فلسطيني ـ سوريا عن القدس العربي
10/3/2020






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com