![]() |
|
![]()
قارة في الثمانينات انحشرنا في سيارة أجرة تنتقل بين مدينة دمشق ومدينة طرابلس الشمالية اللبنانية وبالعكس. كان يوما حارا من أيام الصيف في منتصف ثمانينات القرن الماضي، ولولا نسمات الهواء التي وفرتها حركة السيارة وسرعتها، لكنا نحن الركاب قد أصابنا إعياء الحر، وزيادة التعرق وضيق التنفس والانحشار.
مررنا بقرى وبلدات ومزارع وبساتين عدة، إلى أن لاحت لنا بلدة أخذت معالمها تتبدى لنا تدريجيا. يبدو إنه تم تحديث العديد من معالمها وطرقاتها وبيوتها وساحاتها، وحتى أسوار وجدران مزارعها. كانت الأغصان في المزارع تتدلى منها الثمار، تلتمع وتبدو ريانة عفية، تتضاحك وتتمايل مع هبات الهواء المنعشة. كما وتبدو مجلوة بسبب تداخل خيوط الشمس الذهبية مع أوراقها التي ترتعش ارتعاشات متتالية. ارتاحت قسماتنا وأبداننا بعد أن هبت علينا نسمات باردة. سألنا السائق عن اسم البلدة، أجاب إنها قارة، هي التي يتردد اسمها في أجهزة الإعلام حاليا. علق أحد الركاب، يبدو أن الرضا قد نزل عليها وعلى سكانها، ليتم تحديث وتجديد واستحداث معالم كثيرة فيها، لتبدو وكأنها طلعت من مكتب هندسي حديث جدد كل شيء فيها. هززت رأسي وابتسمت، وعلقت بيني وبين نفسي: آه يا قارة .. لو تعرفون كيف كانت في الخمسينات؟. أوقف السائق السيارة وطلب من الركاب إن رغبوا النزول لنيل قسط من الراحة أو شراء ما يحتاجونه من دكاكين البلدة، أو شرب المياه الباردة التي نقلت من ينابيع البلدة وتم استجرارها من خلال قساطل ومواسير وحنفيات مدت إلى البيوت والطرقات. ازدادت برودة الطقس، خصوصا عندما أخذت الشمس تقترب من أفق غروبها ونحن نغادر المكان.. حتى كانت حبيبات المطر تنث وتهطل رويدا رويدا. استغربنا الأمر، فنحن في شهر حزيران، فكيف يمكن أن يهطل المطر في هذا الشهر؟. ذكر السائق: أغلب مساحات ومعالم هذه المنطقة أي القلمون والتي تقع فيها قارة عجيبة غريبة، فما أن أصلها حتى يبرد طقسها في أحيان كثيرة وينزل المطر، حتى في أشهر الصيف القائظة. علق أحد الركاب: يبدو أن أجواءها مفتوحة ومشرعة لتيارات من الهواء باردة في أحيان كثيرة من السنة، ولذا فإنها سميت ‘قارة’ أي باردة. استمر السائق في سوق السيارة، بعد أن عاد الطقس إلى حرارته الاعتيادية في وقت لاحق على الطريق الذاهب إلى طرابلس اللبنانية. معالم ومعلومات قارة بلدة من بلدات وقرى منطقة القلمون الشاسعة الواسعة من سورية والتي تحاذي لبنان، وتترامى وصولا إلى حدود البادية السورية، وتصل ارتفاعات بعض جبال القلمون إلى نحو 2500 مترا فوق سطح البحر. تبعد قارة نحو 100 كيلومترا شمالا من مدينة دمشق، كما وتبعد نحو 70 كيلومترا جنوب مدينة حمص، وهي تقع بين المدينتين على الطريق الرئيسي. وهذا الموقع هو أحد أسباب أهميتها. يعتدل مناخ قارة في الصيف، ويكون باردا في الشتاء، وتهطل الثلوج أحيانا في شهري كانون الأول/ديسمبر وكانون الثاني/ يناير. ويبدو أن الاسم ‘قارة’ أي باردة جاء من برودة مناخها في الشتاء، ومن البرودة في عدد من أشهر الصيف أيضا. تحيط بها الجبال، خاصة من الجهة الغربية، وتشتهر بكروم العنب والتين والكرز، وتكثر فيها وحواليها ينابيع الماء، وهي بلدة قديمة لا تخلو من آثار تنتمي إلى حقب زمنية وتاريخية عدة. والآثار الباقية تشير إلى تعايش ديني ما زال شاخصا حتى اليوم؛ بين ما هو مسيحي وإسلامي، ففيها الجامع الكبير وهذا هو اسمه الذي يعتبر من المباني الأثرية، تماما مثل كنيسة مار سركيس التي تحتوي على جداريات قديمة، ودير مار يعقوب. كما ويوجد فيها خانات قديمة، مثل خان السلطان نور الدين زنكي وغيره، وما زال فيها بقايا من أقنية مياه تعود إلى الزمن الروماني، كما ويتردد في البلدة، بأن المدرسة الابتدائية فيها بنيت على أنقاض خان قديم. أما النصب التذكاري في البلدة فقد أقيم تخليدا لشهداء معركة ‘عيون العلق’ في العام 1926 التي خاضها الثوار مع الفرنسيين. قارة في الخمسينات ولكن ما علاقة غسان كنفاني ببلدة قارة؟ غسان كنفاني أديب ومناضل فلسطيني عاش أياما في صباه في ‘قرية قارة’ في بداية خمسينات القرن الماضي، والمعروف أنه ولد في عكا الفلسطينية في العام 1936 واغتالته المخابرات الإسرائيلية في العام 1972 في منطقة الحازمية بالقرب من مدينة بيروت. كان من الطبيعي أن توزع النكبة الفلسطينية مآسيها وآلامها وقساوة أيام تشريدها ولياليها على الفلسطينيين بغض النظر عن كيفية عيشهم ومستواهم الاقتصادي والتعليمي والثقافي من قبل في فلسطين. لذا فإن عائلة فائز كنفاني والد غسان والمحامي منذ عام 1924 وعائلات غيرها سكنت في أيام نكبتها الأولى في لبنان، وفي بلدة ‘الغازية’ الواقعة في جنوب مدينة صيدا، ثم انتقلت العائلة بعد نحو شهرين إلى بلدة الزبداني السورية، وبعدها استقرت في مدينة دمشق. على الرغم من وجود أصدقاء في دمشق لم يقصروا في المساعدة والاحتضان لعائلة كنفاني، ومحاولة تدبير عمل لفائز، كمحام أناخ زمن النكبة على منكبيه، كما وأناخ على مناكب غيره من الفلسطينيين. وكانت الأفواه التي تتكاثر في العائلة تتطلب احتياجاتها الطبيعية، وحتى أقل من ذلك. لذا فإن هذا الوضع أجبر حتى الأطفال الأخوة غازي وغسان ومروان للبحث عن أعمال حتى ولو كانت شاقة ومتعبة، المهم أن تتوفر اللقمة، وأن تنستر الأجساد بأغطية وسقوف توفر ساعات وأياما لا يمكن البقاء فيها على قيد الحياة والاحتفاظ بالكرامة’ بحسب ما جاء في كتاب ‘غسان كنفاني.. صفحات كانت مطوية’ لعدنان كنفاني. ولأن فائزة كنفاني كانت الأخت الكبيرة في العائلة، فإنها التحقت بالمدرسة الثانوية متأخرة، إلا أنها استطاعت النجاح في الشهادة الثانوية بعد دراستها للمقررات لمدة شهرين، وكان ذلك إنجازا كبيرا، دفع مدرستها الأهلية إلى تعيينها كمدرسة فيها في فترة الصيف، ثم تم تعيينها في مدرسة رسمية في قرية قارة في السنة الدراسية 1949 1950. عن هذه الفترة التي كان غسان أو أحد إخوته الصبيان يرافق فيها شقيقته طيلة أيام الأسبوع من التدريس في قارة؛ أنقل ما رواه عدنان الأخ الرابع بين الإخوة الخمسة الصبيان في العائلة، من كتابه ‘غسان كنفاني .. صفحات كانت مطوية’ الصادر عن دار الشموس في دمشق العام 2000. غسان في قارة ذكر عدنان في كتابه: ‘تحرك الباص الوحيد الذي يخدم مدنا وقرى كثيرة، تمتد على طول مسافة تزيد على المائة كيلومتر إلى الشمال من مدينة دمشق. يحملنا (فائزة وغسان وأنا) ومجموعة من الفلاحين والمزارعين وسلالهم وأغراضهم الكثيرة، عبر طريق ضيق ومتعرج وخطر، يرتقي تلال (الثنايا) وينحدر ليرتقي مرة أخرى مرتفعات (منطقة القلمون) معلولا ويبرود .. القسطل النبك ودير عطية، وتنتهي الرحلة في قرية (قارة). تلك القرية التي كانت موحشة في العام 1949، المتربعة بيوتها الطينية، وطرقاتها الترابية، والبساتين القليلة المتناثرة هنا وهناك، على آخر سفوح الجبال الجرداء، وشاطئ بادية الشام’. يوالي عدنان كنفاني حديثه عن قرية قارة، ليذكر: ‘صامتة صمت المقابر، إلا من صوت مؤذن (الجامع الوحيد) في أوقات الصلوات، وجلبة تلاميذ المدرسة الابتدائية الوحيدة أيضا التي عينت أختي الكبرى (فائزة) للتدريس فيها، بعد أن نالت الشهادة الثانوية (البكالوريا)’. أما عن تفاصيل الأيام التي كان يقضيها غسان مع شقيقته في قارة، يقول عدنان ‘وصرنا نتناوب الإقامة معها طيلة فترة الدوام المدرسي؛ وحتى بداية العطلة الصيفية. كانت في التاسعة عشرة من العمر’. ويضيف: ‘وغالبا ما يكون غسان المتطوع المتحمس، يرافقها إلى قارة، يذهب معها أحيانا إلى المدرسة ويجلس على أحد المقاعد بين التلاميذ، يتابع باهتمام أسلوبها المشوق والمثالي في التدريس?. يتابع عدنان في سرد التفاصيل: ‘يصحو (غسان) باكرا، يعد لها كأس الحليب الطازج، ويرافقها إلى المدرسة، يحمل دفاتر واجبات التلاميذ والكتب التي تخصها، وغالبا ما يعود إلى البيت، أو إلى الحقول والبساتين القريبة، يختلي مع نفسه، ليكتب أو ليرسم كان في الرابعة عشرة من عمره فقد استهوته القرية لقسوة تضاريسها، وطيبة سكانها، والهدوء العميق الذي يلفها، وبساطتها، ووحشتها، وطبيعتها الفطرية. يتحدث مع (فياض) بواب المدرسة. ليكتب قصة (بطيخة) يتحدث فيها بإسهاب وعفوية عن حياة هذا الرجل مع من حوله، بما فيها من فقر وظلم وقسوة. يسمع من (المؤذن) عن الأفعى الكبيرة السامة التي وجدوها ظهيرة ذات يوم تحت حصير الجامع، فيكتب قصة (الأفعى والخروف) ويرسم أيضا ما توحي له هذه الصور والحكايات’. لم أجد القصتين المشار إليهما من ضمن مجموعات قصصه المنشورة . أما في ما يتعلق بتأثيرات فائزة في حياة غسان اللغوية، يقول عدنان: ‘في المساء يتدارسان ما كتب أو رسم، ولا بد أن يلي ذلك الدرس اليومي (الإلزامي) في أصول وقواعد اللغة العربية، وفي قراءة ما تيسر من سور القرآن الكريم التي تصر فائزة على أن يقرأها (تجويدا) بصوت مرتفع وجهوري مرات ومرات، ليتمكن (كما تقول) من اتقان النطق والوقوف الصحيح على مخارج الحروف وتشكيلها، والبنيان السليم لمواقف التعجب أو الدهشة أو التساؤل.. إلخ’. ليس مستغربا بألا يكف غسان في حياته وأدبه طيلة أيامه اللاحقة القصيرة من التعجب أو الدهشة أو التساؤل في ما يتعلق بمواقف وحوادث وإجراءات لم تكف عن إلحاق الأذى بشعبه وأمته، علما أن لا شعبه ولا أمته لهما أدنى مسؤولية على سبيل المثال عن المذابح التي تم تنفيذها بحق اليهود! كما وليس غريبا في أن طنين التساؤلات، لم يزل يتردد بالصوت والصدى، في حياة الذين استطاعوا النجاة من حرائق واختناقات الخزان، ليعيشوا وأحيانا باستمرار اختناقات خزانات وأسيجة وجدران زنازين أخرى كثيرة.! * كاتب فلسطيني 6/2/2014 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |