عودة الى أدب وفن

هوية ملتقى الأدب الوجيز - أمين الذيب


الهوية ما يضارع المعنى وجهة نظر الى الحياة والكون والفن على أن يبقى المعنى مُلتبساً تُوجِبُ استثارة البحث عن المكنون والغامض في النص والغموض ليس نقيصة بل هو الشعرية المُنقِبة عن المعنى في أماكن قصيّة حيث يذهب الشاعر في لا وعيه الى أقصى مُسافرة يبلغها الخيال شعرية أحلام اليقظة عند باشلار ترقى الى بلوغ الفكر الإنساني مراتب بالغة الشفافية والاستحضار لا نهائية في زمان لا نهائي جدلية الزمان والمكان والمخيلة تجاوز الواقع لاستنباط وقائع مُبتكرة تمظهرت بالنص حين حدوثه هذه الحدثية فعل دائم الحدوث إذن دائمة التحوّل.

ابن سينا لاحظ أن اللغة الشعرية تتأثر بتبدل المكان وحيث إن الأمكنة تتبدل ماهية حضارتها وثقافتها بتبدل وعيها المعرفي الجديد. ورغم تباين المعايير الدلالية بين لغة وأخرى لخصائصها الشعورية والروحية كذلك تتبدّل معايير اللغة الواحدة بتغيّر المكان. وهذا ما طرأ على النص الشعري الأندلسي في الشكل والمضمون والمحتوى وهذا ما رأى إليه أدونيس بأنه الحالة الثورية التي يتأسس عليها التجديد أو التجاوز.

دأب ملتقى الأدب الوجيز منذ تأسيسه على اجتراح معايير مغايرة ترتكز على منطلقات فكرية تتجاوز السورياليّة أيّ ما بعد الواقع الى نظرية جديدة سأطلق عليها اسم ما بعد المُخيّلة وتناهض فكرة المداورة في زمان ومكان محددين يفترقان عن مسار التقدم ليقين محكوم بمسلمات يقينية مكتفية بذاتها وغير منهمكة بحركية التطور الإنساني مقصيّة ما يحدث على هذا الكوكب عن اهتماماتها مما أتاح تعميم ثقافة راكدة لها آلياتها ومنظروها ومريدوها ومؤسساتها طالما كانت حريصة تاريخياً على التصدّي لأي فكر تجديديّ إن بقاء المجتمع أي مجتمع في حالة ركود فكري يؤدي حكماً الى تفكك الهالة الحضاريّة التي تنبثق منها شخصية المجتمع وطاقاته الإبداعية شعرية كانت أم فنيّة أو أدبية عامّة فيتّصف الزمان بها وكذلك المكان وتتحوّل الطاقة الى حضور مؤجل تفرضه عدمية الإنتاج والابتكار. وهذا ما يُعرف بعلم الاجتماع أنه حالة تخلّف وانحطاط حيث تفقد الأمة حيويّتها الإبداعية وتتحول بمفاهيمها الى يقينيات ثابتة، يقينيات تحكم المسار الوجودي بحيثياتها المُقفلة. وهذا يعني أو يقود الى نتيجة حتميّة هي استئثار الماضي بحقائق ثابتة منسجمة بين الشاعر والناقد والمتلقي وغير قابلة للتحرر من يقينيّاتها التي استقرت شخصيتها الأدبية فيها وكأنها عجلة زمان توقفت عن الدوران كخاتمة لصيرورة التكوين.

نحن ندرك صعوبة الاختراق، ولكننا نؤمن بالحركية الصراعية التي تعبّر عن جذوة الحياة ووظائفها التجديديّة فالتجديد نقيض الموت وهنا لا بد أن نستحضر المرتكزات الحضارية والفكرية والفلسفية التي قام عليها الأدب الوجيز فتاريخنا الأدبي هو استمرار ليقظة بدأت في العصر السومري وصولاً الى يومنا هذا انطلاقاً من ملحمة جلجامش التي أسست لفكر إنساني مدني يستمدّ حضوره من قوة الآلهة، كما تزعم الأسطورة التي فسّرت قوة الحياة كناتج لقوى غيبية ترتكز عليها الحياة المجتمعة بعناصرها وتنوّعاتها واختلافاتها حتى الجينية حيث يتميز الفكر الإنساني السليم أي المُتحرر من شبكات المفاهيم العنكبوتية المُهيمنة منذ التكوين المدوّن في وعينا المتوارث على مسارات الانزياحات الفكرية وقدرتها على الاستنباط والابتكار خارج القيم واليقينيات السائدة وسقوفها التي كلما تمّ اختراقها تُحدِثُ صراعاً عنيفاً طالما كان ينتهي بإراقة دم أم نبذ أو تكفير المُبتكر والمُبدع والمُستنبط أفكاراً جديدة ومغايرة لماضوية تُغلق فسحة الأحلام وتُقيّد ثورة الروح الإنسانية وسعيها الدائم للتطور والتقدم والانبلاج.

هذا الفكر الإنساني خواص نوع الانسان هو الذي ينتقل عن أمور حاضرة في ذهنه كما يقول إبن سينا في كتاب الإشارات والتنبيهات الى مطارح وأماكن مُتخيّلة والذي يربطه بالمنطق والحدس اي الاستدلالي الواعي العارف مداركه البحثيّة التخيّلية الطبيعية المباشرة وما أبعد من الطبيعة بمعنى ما قبله. يزعم الأدب الوجيز أنه حركة تجاوزية نقدية لاعتباره أن أزمة الشعر والأدب والفنون بشكل عام ناجمة عن غياب النقد الأدبي واعتماد معظم النقاد على الاستفادة من المدارس النقدية الغربية لذلك حتى يومنا هذا، نجد تفاوتاً وتبايناً في نظرة المتلقي والناقد، إلى جمالية الصورة الشعريّة، فالسواد الأعظم لا زال يقيس الشعر على ما تأسس، بمعنى أنه يقيس الحاضر بما مضى. فالمعرفة التجديديّة مرتبطة في ذائقته بما يعرفه سابقاً، كما يقول أدونيس أي أنه يدفع بكل التحوّلات الفكرية المتجدّدة الى اتجاه الماضي، ويشكك في كل ما هو مستقبلي، لركونه إلى السائد المتجانس مع الموروث، فيتآلف مع ما يعرفه ويشكّك بما لا يعرفه. فاللغة الجميلة عنده هي أن يتكلّم الشاعر بموضوعات يعرفها الجميع، بمعنى أن يمزج الناقد أو المتلقي بين اللغة والكلام.

الجمال نسق أو اتساق، أكان في نسبيته أو اكتماله، الشكل والمضمون وحدة جمالية متناسقة، فإهمال الشكل بدافع الاعتقاد أن المضمون أو المحتوى هو فكرة يعرفها كلا المتلقي والباثّ، لاستتباب القيم، يقمع فكرة التطور. فالجاحظ عندما تصدّى لهذه المفاهيم النقدية اعتبر أن الشكل إناء، ونقد الشكل إنما هو امتحان لفكر الشاعر أي المضمون، فأي فكر جديد يحتاج لانبثاقه شكلاً جديداً، المحتوى في الشعر نوع من حضور الشكل في حركية الإبداع والتطوّر، فإذا كان المحتوى اصطلاحاً نقدياً، أي أنه تجريد ذهني، يستحيل عزله عن الشكل، لكينونته الانصهارية المتلازمة ككيان أدبي قائم بذاته، عندها نكون قد حققنا تجاوزاً حقيقياً في المفاهيم.

بمعنى إذا كان الشاعر كيميائيَّ الواقع، يُعيد ترتيبه وصياغته بحساسيته ورؤياه، يخلق واقعيته المتوخاة. فالناقد هو فيزيائي الواقع يستنبط من القصيدة الأبعاد وجوهر المعاني ليُضفي جمالات ومقاييس تنبعثُ من المُنبعث، ليتشكّل المدى الجمالي في الصورة الشعرية.

لذلك نرى أن مسألة النقد العلمي، لإنتاجنا الأدبي، لا زالت حاجة مُلحة يقتضيها سياق التطور الإنساني. وتقتضيها أيضاً حالة المجتمع الذي يرزح تحت أعتى هجمة استعمارية، تهدف الى تدمير الحضارة والتاريخ والشخصية المجتمعية، وتسعى إلى تفتيت وحدة المجتمع دينياً ومذهبياً وإثنياً، بهدف الهيمنة على ثرواتنا، وتخوض لذلك أشدّ الحروب فتكاً كي تحقق أهدافها وأطماعها.

قد يكون الاعتقاد باستمرارية الماضي، لكماله، بنظر معظم النقاد الذين تنوّعت مدارسهم النقدية، هو ما أعاق الثورة الفكرية، لكون النقد بكينونته ليس إلا فكراً مُستشرفاً، يرى الى الواقع جوهره ومعنى الحدث وليس الحدث بحدّ ذاته وإلا صار مترجماً للواقع. وهذا لا ينطبق على الشاعر الثوري، كأن يكتب عن الواقع إنما برؤيا الاستفادة التجاوزية التي تقود الى المستقبل المُتخيل.

ومن أهم المآخذ على المدارس النقدية، أكانت بنيوية أم واقعية أو تفكيكية، أنها لم تستطع محاكاة الظواهر الفنية والاجتماعية، فوقعت في مطابقة النص مع الواقع، دون أن تستنبط الاستحالة بين الإبداع المتفجّر من الواقع والواقع نفسه. كما أنّها من ناحية استتبابها بالنمطيّة لم تلحظ ولم تعنَ بتفجّر الأشكال أو بالدلالة لظاهرة تجدّد الشكل. كذلك من المآخذ المهمة أن العملية النقدية أغفلت لقناعتها باستتباب القيم، النواحي الروحية في الشعر، فأغفلت أهمية الغوص بالمكبوت عند الشاعر وتجلياته الرمزية خاصة في ملامحه الدينية والنفسية والتي تشكل حيزاً هاماً في القصيدة. كما أنها لم تُعنَ إطلاقاً بنسبية الاستقلالية الشعرية عن المعايير المجتمعية السائدة وتغيراتها الضرورية. لقد أهمل النقد حركية النص، عندما اعتبره حيوية منتهية حين الفروغ من كتابته ولم ينظر إليه قط بأنه مشروع مستقبليّ، لعدم قدرة النقد على الانفتاح على القارئ المقبل – الأجيال الجديدة، وكأن الشاعر لا يقصد مخاطبته فحرم القارئ المستقبلي الذي ربما سيقرأ النص بلغته آنذاك وربما سيعدّل حسب ثقافته ومفاهيمه ما يتلقاه من الشاعر. وأيضاً نرى أن العملية النقدية السائدة أو الماضوية، نظرت بشكل ممنهج الى القصيدة على أنها انعكاساً لما يحيط بها وليست حيوية وفاعلية لها أبعادها ومضامينها ونسيجها الكلامي كبنية لغوية جمالية فتفقده عناصر اكتماله وسعيه للاستنباط والإبداع. وهذا ما توسّع أدونيس بالتعبير عنه. ربما كان للنقد موقف مُسبق من مسألة التجاوز والتجديد، لذلك تغاضى عن دراسة الأشكال الشعريّة الثوريّة وما هي دلالاتها البنويّة، فكل فكر جديد يحتاج شكلاً جديداً في عملية التوازن المعرفي، فالبنية الشكلية – الفنية الجديدة هي نتاج إرهاصات وتصدعات في الواقع السياسي الثقافي الاجتماعي الاقتصادي، لذلك إنّ فهمنا للواقع الجديد بمعنى الدائم التجدّد يحتم علينا ابتكار الأشكال المتماهية مع الفكر الثوري.

إذن السؤال المطروح بناءً على ما تقدّم، ما هو المقصود بجمالية الصورة الشعرية، هل هو الحفاظ على ذائقةٍ تجمع بين اللغة والكلام، أم الاندفاع البحثي عن الجمال في تفجُّر الشكل بالكلام الثوري؟ وهل الشعر سوى التجريد المثالي المُتخيّل، والمُستنبط من الواقع، المعنى العميق للواقع وما يتجاوزه من مدلولات وأبعاد؟

إن المقموع والمكبوت في القصيدة يحتاج الى لغةِ وشجاعةِ الإفصاح كي يكون جميلاً، يحتاج الى لغةٍ جامحةٍ لا يمكن تدجينها وترويضها بالقيم والتقاليد والمقدسات السائدة.

ما نُريد قوله هنا إن جمالية الصورة الشعرية تكمن في تفجُّر الشعر الدائم داخل منظومة السائد القمعي الماضوية، وأن ينبثق بفعل هذه الحيوية، من القصيدة قصائد بفضل ثقافة القارئ وحضوره الإبداعي – الثوري.

في هذه العجالة لا أحاول إطلاقاً القطع الوضعي مع الماضي، بقدرما أحاول أن أرسي أن الماضي والحاضر هما منصات انطلاق فكرية لتجديد لا ينقطع ولا يستكين، دون الوقوع في التقليد والتكرار والاستنساخ. فالجمال يتمركز في المستقبل المتحرّك دائماً والناظر الى الابتكار الذي يقود الى الحرية.

يقول ديكارت في هذا السياق لا أريد أن أعرف إن كان هناك بشرٌ قبلي وأُضيف أنه لا يمكن لشاعرٍ أن يكون حقيقياً إلا اذا قال هو أيضاً لا أريد أن أعرف حتى إن كان هناك شعر قبلي، فالشعر بداية من حاضر منفتح على المستقبل، بمعنى علينا في الشعر الواقعي أن ننجز للواقع شكلاً متحركاً أي شكلاً مستقبلياً.

ناقد وشاعر ومؤسّس ملتقى الأدب الوجيز

عن جريدة البناء
7/8/2019






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com