|
عودة الى أدب وفن
إضاءة - الأدب الوجيز وفضاءات النّقد الأدبيّ - د. باسل الزين
تحضرني، بادئ ذي بدء، حادثة اغتيال الكاتب والمفكّر المصريّ فرج فوده. فعندما سأل القاضي القاتلَ في المحكمة: لماذا قتلته؟ أجاب القاتل: لأنّه كافر، ليعود القاضي ويسأله: كيف عرفتَ أنّه كافر؟ أجاب القاتل: عرفتُ من كتبه، فسأله القاضي مجدّدًا: هل قرأتَ كتبه؟ قال القاتل: لا، فأنا لا أقرأ ولا أكتب.
تحضرني هذه الحادثة بقوّة لأنني أرى قاتل فرج فوده حاضرًا بيننا اليوم على هيئة جماعات ثقافيّة ومافيات شعريّة وميليشيات أدبيّة شحذت هممها واستلّت سيوفها وراحت تكيل للأدب الوجيز الشّتائم وتنعت مشروعَهُ بأقذع النّعوت وتسم حركته بِسِماتٍ من عنديّاتها، وهي، في الحقيقة، جماعات ومافيات وميليشيات لا تقرأ ولا تكتب. وبعد، لستُ هنا في وارد الدّفاع عن الأدب الوجيز بقدر ما أجدني في موقع التّوضيح درءًا لجملة مغالطات قد تترسّخ في ذهن الرأي العام الأدبيّ. منذ البداية، طرح ملتقى الأدب الوجيز مشروعه بوصفه حركة تجاوزيّة نقديّة. ولهذه الغاية، عقد مؤتمرًا تأسيسيًا في البيال في وسط بيروت، تلاه مؤتمر تأسيسيّ ثانٍ في تونس، فحفل إطلاق الملتقى رسميًّا من منزل السّفير التّونسيّ في لبنان. وفي الأمس القريب، شهدت بيروت تنظيم مؤتمر خاصّ بالأدب الوجيز تنادت إليه قامات أدبيّة شامخة من مختلف الأقطار العربيّة، مؤتمر تمّ تنظيمه، برعاية وزراة الثّقافة، وبالشراكة مع الجامعة اللبنانيّة وبحضور شخصيّات سياسية وثقافية وأكاديمية مرموقة، حيث كان لنا شرف استضافة الشّاعر والمفكّر العربيّ الكبير أدونيس الذي بارك توجّهنا وأثنى على جهودنا. وفي السياق نفسه، أخذ رئيس الملتقى وأعضاؤه على عاتقهم مهمة نشر مقالات نقديّة أدبيّة بشكل أسبوعيّ في جريدة البناء، وتحديدًا كلّ نهار أربعاء، فكانت الحصيلة قيّمة والتّفاعلات مثمرة والأصداء إيجابيّة. هذا بالإضافة إلى اللقاءات الشّهريّة التي يُنظّمها الملتقى حيث تجري استضافة شعراء ونقّاد وأكاديميّين لمناقشة مجموعة من القضايا التي يطرحها الملتقى في إطار من المناقبيّة الثّقافية العالية والحوار الفكريّ الغنيّ والفعّال، بخاصّة في مجالي شعر الومضة والقصة القصيرة جدًّا، أي في المجالين اللّذين كرّسهما الأدب الوجيز ودافع عنهما، وهو في طور استنباط خصائصهما وتحديد هويّتهما الدّقيقة. عود على بدء، تقتضي الأمانة الإشارة إلى أنّ الدّراسات النقديّة التي ألقاها المشاركون من مختلف الأقطار العربيّة أثناء انعقاد مؤتمر الأدب الوجيز في بيروت، كانت دراسات غاية في الأهميّة، دراسات حملت بين طيّاتها عمقًا معرفيًّا وبعدًا استشرافيًّا وتحسّسًا عميقًا بجوهر الإشكاليّات النقدية والفكرية المعاصرة. ومع ذلك، ثمّة مَن لا يقرأ ولا يكتب. ثمّة من يُصلت عملنا بعصا جهله، ويحاربنا بأميّته، ويحاججنا من دون أن يطلع على نتاجنا. وعليه، سأكتفي بإيراد جملة أسئلة أظنّها مشروعة، وللقارئ الحصيف من بعدها أن يحكم بما يراه مناسبًا. 1 هل توجد في لبنان اليوم حركة أدبيّة نقديّة فاعلة تأخذ على عاتقها التّنظير لنوع أدبيّ جديد، بحيث تتحسّس مواطن الخلل القائم وتسعى إلى طرح أفكار تجديديّة تنطلق من رحم واقعها وإشكاليّاته واحتياجاته؟ 2 هل يوجد في لبنان اليوم مشروع ثقافيّ أدبيّ جديّ، يعقد المحاضرات النقديّة ويطرح أفكاره للنقاش والحوار، فيعمّق مفاهيمه ويغتني بمحاوريه ومبدعيه وينطلق ليُعزّز آلياته وليصوّب أحكامه؟ 3 هل توجد في لبنان اليوم حركة نقديّة فاعلة، تأخذ على عاتقها مهمة تشريح النصوص وتعميق المفاهيم؟ لا أغالي إذا قلت بأنّ الأدب الوجيز هو الملتقى الوحيد الذي يطرح مشروعًا تجديديًا جديًّا، ويعمل من أجله ليل نهار. وبشيء من اللغة الحازمة أقول: نحن لا نحتاج إلى مصفّقين وذلك بالقدر نفسه الذي نحتاج فيه إلى مبدعين ومحاورين ومثقفين. بلى، الأدب الوجيز لن تقوم له قائمة إلا في ظلّ وجود نخبة من الجديّين والمثقفين الذي يتحسّسون بعمق المأزق الأدبيّ الذي نعيشه، فيسعون إلى رصد مواطن خلله ويعملون جاهدين على تطوير منظومة ثقافيّة واسعة قادرة على العبور بنا من الثّبات والسّكونيّة إلى الفعل والإبداع. وفي هذا السّياق، نحن لا ندّعي أنّنا أنجزنا مشروعًا كاملًا أو توّجنا جهودنا بتكريس نوع أدبيّ جديد بالتّمام. لكن، جلّ ما نقوم به محاولات تطمح إلى تجاوز السائد وزحزحة الجمود المستبدّ. ولهذه الغاية، جاء عمل الملتقى عملًا عموديًّا يحفر في الثّقافة السّائدة ويستنهض الهمم الخائرة. وليس غريبًا أن تتنادى جمهرة من المبدعين والمثقفين العرب إلى مساندة مشروعنا وعقد مؤتمرات دورية ومحاضرات شهريّة للوقوف على طروحاتنا ومناقشتها. وبعد، نحن لا نطلب تطويبًا ولا اعترافًا بمشروعيّة، فنحن على ثقة تامّة بعمق ما نقوم به. لكن جلّ ما نطالب به هو تعزيز الحركة النقديّة، والابتعاد عن الجمود الفكريّ القاتل. وعليه، كنّا أوّل الداعين إلى مناقشة مشروعنا وتفنيده وتناوله بالنّقد والتّفكيك، شريطة ألا يتحوّل النقد الموضوعي إلى نقد شخصانيّ، والعمل الأدبيّ إلى عمل فردانيّ. حاصل الكلام، نحن مستمرّون في الحوار، وقد أخذنا على عاتقنا أن نحاور من يختلف عنّا لإيماننا العميق بأنّ النقد الجديّ والرّصين هو طريقنا الوحيد إلى تدارك عثراتنا وتصويب هفواتنا وتنضيد أفكارنا وتطوير آليتنا. بوجيز العبارة، يتعلّق الأمر بمشروع ثقافيّ عنيد. فنحن نستشرف آفاقًا انطلاقًا من أبعاد تاريخيّة موغلة في القدم، ونعالج أفكارًا نراها بنّاءة وتصبّ في خدمة المجتمع والأدب والنّقد. لذا، سنسعى جاهدين بكلّ ما أوتينا من عدّة معرفيّة وسبل إبداعيّة إلى تأصيل النوع الأدبيّ الذي ندعو إليه، مع العلم أنّ أبوابنا مفتوحة للنقد والتّصويب. يذكر التاريخ اليوم فرج فوده ولا يذكر قاتله. يحتفي العالم بأفكار فرج فوده وإبداعه ويشيح ببصره عن القتل والدم. من هذا المنظور، سنسعى إلى ترسيخ قدمنا وتسويغ مشروعنا موقنين أنّ العمل الجديّ وحده الذي يبقى، والمشروع الثقافيّ البنّاء وحده من يتكلّم عن نفسه، بعيدًا من ضوضاء التصفيق والمجاملات وصخب المؤامرات وضجيج الخواء على موائد السّهر واللغو وما لفّ لفّهما. عضو ملتقى الأدب الوجيز عن جريدة البناء 31/7/2019 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |