![]() |
|
عودة الى أدب وفن
باق في حيفا أو متروك فيها… مقاربة بين إميل حبيبي وغسان كنفاني - سمير حاج
![]()
بين مزمور إميل حبيبي في «المتشائل» 1974، «لا تلوموا الضحية» ومانفستو غسان كنفاني «الإنسان قضية» في «عائد إلى حيفا» 1969، خرج سعيدان بوجهين مختلفين. سعيد أبو النحس المتشائل الباقي في حيفا مهما كلّف الثمن، والمتعاون مع السلطات الإسرائيلية، على الرغم من أنّ العصابات اليهودية قتلت أباه في أحداث عام 1948، وهو نفسه نجا بأعجوبة بفضلة حمار. وسعيد. س في «عائد إلى حيفا» الذي اضطر إلى الهرب من حيفا عام 1948 تاركا ابنه الطفل خلدون، وحين عاد مخذولا بعد نكسة 1967 للبحث عنه وجده قد انسلخ من جلده وهويته من حيث لا يدري وتشظّى فكريا، إذ تشرّب الفكر الصهيوني وارتدى زي جندي إسرائيلي. هل أراد حبيبي الردّ على كنفاني باعتبار أنّه أدرى بسعيده الباقي في حيفا لأنّه عاش تجربة البقاء، وسعيد هو انشطار من شريحة كبيرة من الجماهير الفلسطينية الباقية في وطنها والمتشبّثة بالأرض والبيت، رغم تهجير أهلها وهدم قراها ومصادرة أراضيها وأملاكها، وفرض الحكم العسكري عليهم من عام 1948- 1966، وتقييدهم بقوانين طوارئ تمنعهم الخروج من قراهم ومدنهم، ما جعلهم مرغمين على أن يمروا في صيرورة وتحوّلات قاسية.
ما من شك في أنّ حبيبي تأثّر برواية كنفاني التي نشرت قبل روايته بخمس سنوات، وشكّلت محفّزا لكتابة المتشائل برؤية مغايرة لرواية المنفى، وهو الذي قرأها وأشار إليها في آخر حوار نشر معه (مشارف ع 9 يونيو/حزيران 1996) قائلا إنّ كنفاني أخطأ في رسم اتجاه شوارع حيفا، وإن كانت الروايتان تتعالقان في رسم صورة الباقي في حيفا أو المتروك فيها. كنفاني اهتم بالصحوة واستبدال الحلم بالفعل، والاعتماد على الذات، والبوح عن خسارة الخروج من الوطن، وحبيبي وسم سعيده الضحية بمياسم ومزايا استقاها من تجربة ذاتية سياسية قاسية عاشها إبّان النكبة هو وجيله، خاصة في عصبة التحرّر الوطني، وفي ما يعد في حزبه الشيوعي الإسرائيلي، وهدف أن يصرخ من وجعه أنّ سعيده فرض عليه واقعا جديدا أرغمه على التمادي والتعاون مع السلطة، بأسلوب شهرزادي تجاه شهريار السفاح، أملا في الحفاظ على بقائه والسماح بعودة حبيبته يعاد، ورغم عدم ثقته بالسلطات توهّم أنّ هذا الفعل سيسعفه لكنّ الطرفين بشكل متبادل لا يثق أحدهما في الآخر. كما يوضح حبيبي أنّ سعيد رغم وشايته للسلطات هو ضحية النكبة. حبيبي اختار هذا الأنموذج من الشخصيات للتعبير عن إسقاطات النكبة على الفلسطيني الباقي في وطنه. عند كنفاني كان خلدون طفلا عاجزا ومتروكا وسلبيا passive بينما في رسم حبيبي التخييليّ سعيد تجرأ وعاد من لبنان إلى حيفا تحت الرصاص بتوجّس وحذر، كما أنّه لم يعبر اسمه ولم يتشرّب الفكر الصهيوني، ولم ينخرط في الجيش الإسرائيلي. حبيبي لم يدافع عن سعيده ولم يعط مصداقية أو تسويغا لنهجه وتعاونه مع السلطات الإسرائيلية، لكنه بسخريته المرّة الصفراء أراد القول إنّ هذا الفلسطيني المتعاون مع السلطة لضمان بقائه وللسماح لأقاربه بالعودة لا يستطيع في النهاية الانسلاخ عن شعبه، ولن يحقّق مكاسب، وهذا ما حدث فقد قامت الشرطة الإسرائيلية بطرد حبيبته يعاد الأولى، ويعاد الثانية من بيته في حيفا بذريعة أنّها لا تحمل تصريحا للبقاء فيها، ومن ناحية ثانية، بعد أن تزوّج سعيد باقية الطنطورية، وأنجب منها ولاء وأصبح شابا، انضم ولاء إلى العمل الفدائي مثل خالد أخ خلدون في «عائد إلى حيفا» وهرب هو وأمّه ما وراء الحدود. وحبيبي في متشائله أرشف ذاكرة شــــعبه وخريطة وطنه قبل النكبة وبعدها، من تقويض المكان أي هدم مئات القرى الفلسطينية وتشريد أهلها وتغيـــير أسمائها إلى العبرية، وخلخلة فكـــر الإنسان الفلسطيني وترويضه بأنظمة وقوانين قامعة، منها قانون «حاضر غائب» أو ما يسمّى بقانون «أملاك الغائبين – لعام 1950»، والذي يمنح «القيم على أملاك الغائبين» حرية مطلقة في إصدار شهادة «غائب»، ومصادرة الأرض من مالكها الشرعيّ، حتى إن كان مواطنا يعيش داخل الدولة، إن كان قد تغيّب بضع ساعات من مكان سكناه إبّان تعداد السكان، بسبب طرده أو نفيه من مكان سكناه، أو هربه خوفا من الحرب. فقد حملت المتشائل خريطة القرى الفلسطينية المندثرة والباقية، كما أبرزت المتشائل ضريبة البقاء في الوطن، التي دفعها سعيد في حياته الخازوقية بلغة حبيبي داخل إسرائيل، بينما كنفاني أبرز تشويه الإنسان شكلا وتشظيه فكرا. إنّ كنفاني كان رائدا وسبّاقا في الرواية الفلسطينية في رسم صورة الفلسطيني الباقي في وطنه. صحيح أنّ «عائد إلى حيفا» من بدايات الكتابة الكنفانية، وهي لا تمثّل إبداعات كنفاني الروائية التي أحدثت نقلة فنيّة مميّزة في هندسة الرواية العربية عامة، وفي كتابة رواية ناضجة فكريا بخصوصية فلسطينية، لكنّها حملت جرأة كنفاني في تسليط الضوء على إسقاطات النكبة على الفلسطيني الباقي في وطنه ووضعه في خريطة الرواية العربية عامة، بعد أن كان منسيا ومغيّبا، كما كانت رائدة في جلد الذات وتأنيب الضمير بفعل الخروج من حيفا أوّلا وترك خلدون ثانيا، والتقاعس في محاولة استرداده. ورواية كنفاني هي صرخة «إنّي اتّهم» في وجه العالم العربيّ والفلسطينيّ، لتحوّلات خلدون الفكرية والشكلية، رغم أنّها مثقلة بالأفكار والجدل والتنظير الفلسفي، على لسان دوف المنصهر في بوتقة التربية الصهيونية، الذي أصبح بسبب تركه في حيفا عدوا لشعبه وواعظا لوالديه، من خلال لقاء أوّليّ «كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا ـ وإذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكم بأي ثمن ألا تتركوا طفلا رضيعا في السرير». لا تكشف الرواية اللغة التي تحدّث بها دوف مع والديه البيولوجيين. إنّ حبيبي الشمقمقيّ القارص في أسلوبه وصاحب البناء الأخطبوطي للرواية، ولاعب النرد السرديّ الحاذق في المتشائل، عالج وبسخرية مرة موضوعا شائكا وجريئا بأسلوب تراجيكوميدي، حمّل فيه سعيده صخرة اقتلعها من شاطئ الطنطورية ونقش عليها «باق في حيفا» بكل ثمن، لو مسمّرا على خشبة الصليب أو قاعدا فوق خازوق، كما حدث معه في نهاية المتشائل. «وجدتني مرة أخرى، متربّعا وحيدا على رأس ذلك الخازوق الذي بلا رأس. كابوس يحط على صدري ليلة ليلة، بلا انقطاع فلا أقوى على إزاحته عن صدري أو على أن استيقظ. خازوق في كابوس. والخازوق الحقيقي هو ذلك الوسواس الذي لم أستطع فكّه عنّي، أن ماذا سيحلّ بك، يا ابن النحس، لو ظهر أنّه ليس بكابوس بل خازوق واقع؟» (المتشائل 2016). رغم نهج الناقد الفرنسي رولان بارت في التعامل مع النصّ بعيدا عن تأثير المؤلف ،إلا أنّ حبيبي في الحوار الأخير الذي أجري معه قبيل وفاته (مشارف يونيو 1996) أعمل مبضع الناقد كاشفا الهدف من تشييد شخصية سعيد في المتشائل: «سمحت لنفسي أن أكتشف هدفين من وراء شخصية سعيد أبي النحس المتشائل. الهدف الأول هو الدفاع عن تصرفات شعبي الفلسطيني الذي تحمّل البقاء في وطنه، في ذلك الجزء منه الذي قامت عليه دولة إسرائيل، ومهما يقال عنا فإنّ الحقيقة أنّه ما كان من الممكن أن نصمد من دون أن ندفع الثمن بالمقابل. صحيح أنّه لولا مقاومتنا، وما دفعنا من ثمن باهظ في هذه المقاومة، ما كان من الممكن أن نبقى في بلادنا، لكن مع ذلك، علينا أن نعترف أنّ الأكثرية الساحقة من شعبنا ـ فيما تسمّونه الداخل- التجأت إلى ما يسمّى بسلاح «الصبر الحامض» وكنّا كثيرا ما نغنّي في ليالينا الموال العراقي «أصمد على الضيم إن جار الزمان وحكم». * كاتب فلسطيني عن القدس العربي 15/05/2019 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |