عودة الى أدب وفن

"المتشائل" بين المسرح والرواية - د. سميح مسعود



تمكن بكري على امتداد ما يزيد عن ربع قرن من استشعار الهم الفلسطيني بإحساس عميق، من خلال الغوص في عمق مفردات نص رواية المتشائل الساخرة، بلغة جميلة لفظا ومعنى، وبتلوين جذاب في الصوت، يرفع من مستوى أداءه صوتيا في تعبيره عن جراح شعبه بلكنة مؤلمة

أسعدني الحظ مؤخرا وشاهدت المتشائل رائعة إميل حبيبي في عمل موندرامي متميز في عمان، بقيت على امتداد ساعتين مشدودا أمام الفنان الفلسطيني الكبير ذي المواهب الإبداعية المتعددة محمد بكري، وهو يعرض موندرامية متميزة عرضها لأول مرة عام 1986، وما زال يعرضها بنفس الحماس والتألق حتى الأن كما قدمها في عرضه الأول، وما زال يحافظ على تأثيره الكبيرعلى جمهور المشاهدين، يُبهرهم ويثير فيهم فيضا من المشاعر الدفينة نحو بيوتهم وقراهم ومدنهم داخل فلسطين، ونحو تداعيات النكبة التي أورثتهم حُزنا مزمنا.

تمكن بكري على امتداد ما يزيد عن ربع قرن من استشعار الهم الفلسطيني بإحساس عميق، من خلال الغوص في عمق مفردات نص رواية المتشائل الساخرة، بلغة جميلة لفظا ومعنى، وبتلوين جذاب في الصوت، يرفع من مستوى أداءه صوتيا في تعبيره عن جراح شعبه بلكنة مؤلمة، ويزيد من قدرته الفنية على تجسيد دواخل أحداث مليئة بالصدمات والنكسات على اتساع فترة زمنية طويلة، يتحسس مواضع ألامها وأحزانها بتفاصيلها المختلفة بمؤثرات عاطفية ووجدانية، يبثها إلى جمهوره بأسلوب ساخر مثير في مشاهد إبداعية متتابعة يمتزج فيها الضحك بالبكاء والحزن والجد بالهزل والتفاؤل بالتشاؤم، يعكس بها باقتدار كبير مضمون نص "كوميديا سوداء" يخاطب جميع الحواس، وتطول بها قامته كفنان موهوب أكثر وأكثر مع تأدية تلك المشاهد من "المتشائل" بتألق دائم على خشبة المسرح في عروضه المتكررة على امتاد أعوام طويلة.

عُرضت المسرحية في عمان في قاعة فندق، غير مخصصة للأنشطة المسرحية، ولا تتعامل مع دلالات ومؤثرات بصرية وضوئية وديكور وملابس وغيرها من التنويعات الأخرى التي يتمسك بها المسرح التقليدي، اشتملت القاعة على سرير بسيط وضع بعناية أمام الجمهور، يشبه السرير الذي يظهر دوما في عروض المسرحية (ويرمز إلى أسرة مستشفيات المجانين)... إكتظت القاعة بجمهور كبير، نساء ورجال وشباب من مختلف الأعمار، كان الكل بانتظار بدء العرض، بانتظار سماع الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل، وسماع تفاصيل أحداث بؤس حكاية شعبه على امتداد سنوات الشتات الطويلة، التي بدأت بنحس النكبة اللعينة والهزيمة، وما تلاها من نحوس أخرى وهزائم متواصلة، ما زالت تحل بشعبه في الزمن الراهن.

في الوقت المحدد، دخل محمد بكري من الباب الرئيسي للقاعة وهو يرتدي بدلة مهترئة قديمة، ويحمل "مكنسة" طويلة يقبض عليها بيديه، اخترق الصفوف باتجاه مقدمة القاعة حيث يوجد السرير البسيط، واصل السير ببطء وهو يغني لجمهوره بصوته الجهوري أغنية من التراث الشعبي عمت فلسطين وبلاد الشام فيما مضى، من كلماتها: "حيد عن الجيش يا غبيشي، قبل الحناطير ما يطلوا / ما حيّد عن الجيش لويش وَاللي يعادي غبيشي يا ذله".

تحمس الجمهور لظهوره، وفجأة ردد الجميع معه الأغنية بصوت عالٍ، وعندما وصل إلى مقدمة القاعة، توقف عن الغناء... جال بعينيه على أرجاء المكان، ثم وجه نظره نحو سيدة كانت تجلس في الصف الأول، حياها ببضع كلمات مسموعة و قدمها للجمهور بأعلى صوته باحترام واضح قائلا: "معنا الدكتورة راوية إميل حبيبي" سرعان ما صفق الحضور تعبيرا ًعن تقديره، بما يوحي ويعبر عن التقدير المعنوي الكبير لوالدها.

بأداء صوتي متميز بدأ بكري في سرد دواخل "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل". اتسع فعله التمثيلي من أقصى يسار القاعة إلى اقصى يمينها، بحضوره وقدرته الفنية جعل منها خشبة مسرح واسعة، رغم أنها غير مناسبة للعروض المسرحية، وتمكن باقتدار أن يجسد شخصية "سعيد أبو النحس المتشائل" في أداء قل مثيله عبّر به عن امتلاكه قدرة سحرية في الألقاء والحركة والتعبير والإحساس بالصدق في تقديم الشخصية، وفي اختراق قلوب الجمهور بامتياز، حتى وفي إشراك الجمهور معه في أدائه، وجعله جزءا من المشاهد المعروضة، من خلال الحديث مع بعض الحضور، ودعوة أكثر من سيدة للرقص معه على أنغام موسيقية هادئة معبرة تتلاءم مع سياق العرض، كما وأشرك الجميع معه في ترديد عدة أغان تتلاءم مع حكايا المسرحية المجبولة بمرارة الشتات والنفي والانكسار والقهر وبؤس الهزائم.

نجح الفنان القدير محمد بكري بأدائه الرائع أن يتحكم بحركاته وصوته وجسمه ويتألق بأفاق جميلة طيلة عرض مشاهده الموندرامية، تمكن بجدارة من خطف إعجاب الحضور بعرضه المتميز، كما نجح في همساته وكلماته ورقصه وأغانيه في خلط التفاؤل بالتشاؤم، والبكاء بالضحك بانفعالات كبيرة، وتمكن من تثبيت المكان في سياق مقاطع كثيرة ردد فيها حيفا وعكا والطنطورة والبروة وقرى ومدن اخرى غيرها، وشدد فيها على حتمية البقاء والصمود في الداخل الفلسطيني رغم القهر والقمع والمصادرة.



*السادسة بين أفضل مئة رواية عربية*

تدور المسرحية حول رواية الأديب الراحل الكبير إميل حبيبي الموسومة "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" التي احتلت الترتيب السادس في تصنيف اتحاد الكتاب العرب لأفضل مئة رواية عربية، وهي رواية ساخرة تم إختيار اسمها من دمج لفظي المتشائم والمتفائل فنتج المتشائل، وتعبر عن انقسام شخصية الفلسطيني الذي بقي في بلده بعد النكبة تحت حكم الدولة المحتلة، بين الحفاظ على هويته الفلسطينية العربية، وبين اضطراره إبان فترة الحكم العسكري إثبات الولاء للدولة المحتلة، إتقاء لشر السلطات ومخبريها.

تتكون رواية المتشائل من ثلاثة كتب تؤرخ للمراحل الأساسية في تاريخ القضية الفلسطينية من عام 1948 حتى عام 1974، يحمل الكتاب الأول إسم يُعاد وهي فتاة حيفاوية تمثل المرحلة السابقة للنكبة، ويحمل الكتاب الثاني إسم باقية وهي طنطورية تمثل روح الصمود والمقاومة والتشبث بالأرض والهوية في وجه محاولات الإقتلاع والترحيل بعد النكبة، حتى وقوع بقية الأرض الفلسطينية في الأسر مع هزيمة 1967، ويحمل الكتاب الثالث إسم يعاد الثانية، التي تجسد المرحلة الجديدة من الوعي الفلسطيني الذي تبلور بعد هزيمة 1967، وانطلاق العمل الفدائي ويرمز إسمها للعودة. وأما سعيد المتشائل في الرواية فإنه يرمز إلى الفلسطيني الذي لم يهجَّر وبقي في وطنه بعد النكبة، وجوهر الرواية هو وصول بطلها سعيد إلى قناعة حتمية صيغة الفداء والمقاومة المسلحة.

يظهر سعيد في الكتاب الأول وهو يبحث عن التكيف ويتلمس الأمن والأمان، ويعبر عن استعداده لتقديم التنازلات التي تطلبها منه الدولة المحتلة، ثم يظهر في الكتاب الثاني أسير إزدواجية غريبة، في وقت حمل فيه ابنه السلاح ولاذ بالفرار والإختباء بكهف بعيد، وينتهي الأمر بسعيد في الكتاب الثالث إلى الجلوس على قمة "خازوق" يرفض النزول عنه، ورغم تغيره إلا أنه لم يتمكن من النزول إلى الناس لمشاركتهم النضال، ولم يجد أمامه سوى الإستنجاد بكائن فضائي، استجاب له وحمله إلى حيث الجنون. وبهذا أكدت الرواية على سقوط صيغة ازدواجية الولاء في الارض المحتلة، وعلى صعود صيغة الفداء من أجل الوطن.

تتسم الرواية بتراكيب نصية ذات قيمة بنائية متميزة غير متبعة من قبل في الأعمال الروائية، تمكن بها إميل حبيبي من تأسيس مقومات إبداعية جديدة تعتمد على استلهام التراث العربي والفلسطيني والأمثال والحكايات الشعبية، واستخدام جمالية فائقة للغة المتبعة، تتألق بها عبارات كثيرة يبتدعها المؤلف بسياقات توظيفية نصية في مجال السخرية والكوميديا السوداء بدفعات زاخرة بالمرارة والضحك والبكاء.

واللافت أن إميل حبيبي قد اعطى المرأة مكانة خاصة في روايته، شعر بكينونتها وانسانيتها، وأظهرها فيها كحبيبة وزوجة وأم ومناضلة مقاومة للإحتلال، كما حَمل كتبه الثلاثة المكونة للرواية إسم امرأة: يُعاد وباقية ويًعاد الثانية. ولأهمية هذه الأسماء في إطار أسرة الراحل إميل حبيبي، تحمل إحدى حفيداته إسم "يُعاد"، و تحمله كثيرات أيضا من فتيات فلسطين، لأنه يُعبر عن مشاعر العودة، كما أطلق اسم يُعاد على فرقة الإنشاد الوطني ألتي تأسست في الرامة، وهذا يوحي ويعبر عن سطوة البعد المعنوي للرواية في الراهن المعيش.

*كاتب فلسطيني يقيم في مونتريال - كندا
07/12/2013






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com