|
عودة الى أدب وفن
الوفاء للأشياء… بالتمرّد عليها! - إبراهيم نصر الله
1. الينبوع الأول
غالباً ما يقال إن الكاتب مهما ابتعد عن نقطة بداياته الإبداعية إلا أنه يظل مخلصاً لها ومسكوناً بهاجسه الأول، وفي ظني لا توجد هناك قاعدة صارمة في هذا المجال، وإن كنا نجدها، هنا أو هناك، بين حين وآخر؛ فالمرء قد يكون أشبه بالبذرة التي تقع في الأرض وتزهر وتمتد شجرة، تعطي ظلاً وتعطي ثمراً وهواء، ولكن هل هذه الشجرة هي تلك البذرة؟ في حالة التبسيط يكون الجواب نعم، ولكن إذا ما تأملنا الأمر من مختلف جوانبه يكون غير ذلك، فالشجرة لا تصبح شجرة لكونها بذرة فقط، تصبح شجرة بفعل كونها بذرة وبفعل نوعية التراب الذي وقعت فيه وظروف النمو ومدى العناية بها، وما توافر لها من شمس ويد حانية. هكذا تموت كثير من البذور ويحيا سواها، يكبر بعضها ويُعَمَّر، ويتوقف الآخر عند نقطة بحيث لا يعود نافعاً إلا حطباً. وكل تجاربنا الإبداعية كذلك. فيها من جوهر البذرة، وفيها من جوهرنا نحن في حالة تحوّلنا، وفيها من تاريخنا الإنساني الذي يتشكل مع مرور الأيام أو يتكلّس. حين أنظر إلى نفسي كإنسان أحس بأنني أكثر من واحد في واحد، فأنا ذلك الطفل، وذلك الشاب الصغير، وذلك الذي هو الآن، وذلك الذي يعد العدة لسنواته القادمة. حين تكتب كتابك الأول، مثلاً، لا تكون قد قرأت ما قرأته بعده، ورأيت ما رأيته وعشت ما عشته واختبرت ما اختبرته واختبرك. ولذلك، قد تنمو بعض الأفكار ما بين مرحلة وأخرى، وتكون هناك قصيدة خرجت من رحم قصيدة، إلا أن مجمل التجربة غير ذلك، حتى لو تحمس البعض لمقولة أن الكاتب يكتب في حياته كتاباً واحداً وبقية كتبه تنويعات عليه. بقدر تنوّعك ككاتب تتأهل للحياة أكثر، ولعل أكثر ما يحزنني أن يُختصر كثير من الكتّاب في كتاب واحد كتبوه. 2. عبور المراحل قد تساهم مرحلة ما في إنتاج كاتب أو شاعر، وهذا شيء طبيعي، قد تعطيه ما يستحقه، وقد تكون أكثر كرماً! وفي حالات قد لا تعطيه أي شيء. هذا الأمر جزء متكرر في المسيرة الإنسانية؛ بعض الشعراء الذين لا يحظون بحب مرحلة ما، قد يفقدون الأمل بالشعر وبسواه ويؤْثِرون الصمت بحجة غياب العدالة، بخاصة في مرحلة تبدو أنها مسجلة رسمياً باسم شعراء بعينهم أو كتّاب. كل كاتب جديد جاء إلى الكتابة كان يسبقه عشرات الكتاب النجوم والكتاب العظماء حقاً، وهذا أمر طبيعي، وقد يكون نصّ كُتِب قبل ألفي عام عنصر تحدّ أكثر من أي نصّ يُكتب اليوم. المشكلة الكبرى التي تواجه أي كاتب جديد أن يكون معيار الكتابة لديه ما يُكتب الآن، أو ما يكتبه شاعر نجم، أو شاعر يبدو أنه يحتل مرحلة زمنية واسعة بأكملها، ولذلك لا أعوِّل كثيراً على فكرة شاعر المرحلة، فهذه فكرة يخلقها أحياناً الإعلام والكسل النقدي وسطوة الجاهز، ولذلك فإن المعيار في النهاية ألا يكون الشاعر شاعر مرحلة، بل هو الشاعر العابر للمراحل، وإن كانت كتابة حقيقية لا بد أن تؤثر في زمانها. 3. الشخصي والاجتماعي .. المعرفي ! الكتابة تحتاج الكثير، ولكي تكون مخلصاً لها فعليك أن تعطيها كي تعطيك، لذا أرى أن الكتابة خيار يتقدم أي خيار آخر؛ وذلك يعني ألا تتنازل من أجل المكاسب العابرة عمّا هو جوهري فيك، أن تكون حريصاً على ألاّ تأكل أي وظيفة-مهما كان حجمها وإغراؤها-حصة الكتابة، وقد يدفعك هذا لأن تكون زاهداً في كثير من الأشياء فعلاً. بمعنى أن يكون لديك استعداد للتخفف من كل عبء يتناقض مع كتابتك، وألا تسمح لشيء أن يُجَرِّحَ الأفكارَ التي تؤمن بها، وربما تصل لذلك عبر ثلاثة أمور هي: القناعة، والتعامل مع الكتابة كخيار روحي أول وأخير، ومحاولتك المستمرة لتحقيق السلام مع النفس. 4. فضائل التمرد هل تستطيع الكتابة رؤية الأشياء إن لم تتمرد عليها؟ وما الذي يعنيه القبول بالمنجز الجاهز، سواء أكان حدثاً روائياً أو شكلاً فنيا، غير أنه سيسلبها السبب الأول لوجودها والقائم في معنى التجاوز والحوار مع الأشياء لا الاستسلام المسبق لها. لا تستطيع ككاتب، بهذا المعنى، الذهاب إلى موضوع إن لم تكن فكرة وهاجس اكتشافه واكتشاف ذاتك فيه تسيران معاً جنباً إلى جنب. إذ إن الفكرة التي تخطر لك، أو التي عشتها، بقدر ما تكون زاهية وحميمة، بقدر ما تكون طُعْمَاً؛ فإذا ما ابتلعته لمجرد أنك تريد امتلاكه قبل غيرك، أو تريد إثبات وفائك له بضعفك أمامه، فإنك تتحوّل إلى فريسة لذلك الطُّعْم، أنتَ وما تكتبه. كل الأفكار الجميلة بهذا المعنى هي فخاخ، أو ندَّاهات، ولا تكون الكتابةُ كتابةً إن لم تُعارك هذه الأفكار الجميلة لتحقق هذا الجمال أكثر عبر تجسيده نصاً مغايراً، بجمال جديد مغاير أيضاً، لا ينفي الجمال الأول بقدر ما يحقق وجوده ويحرره من راهنيته، أو تاريخيته. 5. وبعد: لا تُرَبِّ الطيورَ على سطحِ بيتكَ أو في قفصْ اترُك الطيرَ يعلو ويأتي إليكَ بأحلى القَصَصْ عن القدس العربي 12/12/2018 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |