عودة الى أدب وفن

البياتي شاعر الأحزان والمنافي - بقلم: نجاح حلاس



حمص / صحيفة العروبة

الإبداع ثمرة من ثمرات التجلي الروحي، وشروق الرؤيا مادته الخام الحياة بكل أحزانها وآلامها ومآسيها ولأن المبدع يمتلك لغة التعبير الحية التي تصور مزريات هذا الواقع ويبحث عن دروب الخلاص فإنه يتعرض للنفي أو السجن وفي كلتا الحالتين يعيش غربتين غربة الروح وغربة الجسد.

وعبد الوهاب البياتي شاعر عراقي عزف ألحانه على أوتار وجعه فكانت قصائده تضجّ بالحنين لأرض العراق التي تركها هرباً من جور الظالم المستبد العميل للامبريالية والاستعمار.‏

وكما يبدو أن المنفى لم يزده إلا إصراراً على العودة ...نخيل العراق يشده .. فراته .. دجلة .. ناسه .. شمسه يقول في ديوانه ( اشعار في المنفى )‏

إلهي أعدني إلى وطني عندليباً‏

على جنح غيمة‏

على ضوء نجمه‏

أعدني فلة ترف على صدر نبعه‏

وتله‏

إلهي أعدني إلى وطني عندليب‏

ويشرك الطبيعة في أحزانه التي لاتنتهي .. يشرك الفصول في تعاقبها ويكون الناي ببكائه مفتاح الأسئلة على الوجع، وعلى آلام زمن صعب نزيفه ينزُّدماً بسبب واقع يمتد على مساحة الأرض العربية:‏

الناي يبكي إنها الغابات تبحث سيدي‏

عن قوتها في باطن الأرض العميق‏

الناي يبكي إنها ريح الخريف‏

الناي يبكي إنها الأبراج واهمها‏

الحريق‏

الناي إنسان يقاوم موته‏

موت الطبيعة والفصول‏

ويبدو أنّ المنفى ظلّ السكين الذي يخاف طعناته أو طعنات المخبرين لذلك قال:‏

قالت ستموت غداً مسموماً في المنفى‏

أو مذبوحاً في سكين صديق أو مخبر سلطان‏

لكن هذا لايعني أن بارقة أمل دائما تلوح في أفق الشاعر.. تشعل في دروبه الضياء.. وهو الذي يستحم بمطر الشعر القادم من غيمات حبلى بالخير:‏

قال مخنث بابل أنت الآن مأسور باسم‏

الشعراء الخصيان‏

لكنّي كنت أموت غريقاً في النور القادم من أبعد نجم.‏

محترقاً في نار الشعر الزرقاء.‏

فنار الشعر تطهرّه من رجس الآلام التي تؤرق حياته وتعيده إلى حالة النقاء الروحي ليتصافى مع ذاته ومع العالم الخارجي الذي هو عالمه وعالم الكثيرين من أمثاله.‏

والاحتراق بنار الشعر لايعني حالة خاصة بالبياتي بل هي حالة تنطبق على جميع الشعراء .. والشعراء - كما صورهم - متعددو الاشكال منهم من حافظ على إشراقاته في تجلياتها الروحية الجميلة ومنهم من مات في المنفى يأساً ومنهم من جاع ليحمي نفسه ويعيش طوال عمره عفيفاً ومنهم من باع نفسه بأثمان بخسة، ومنهم من مات بمرض النسيان أو الجنون.‏

الشعراء احترقوا‏

منهم من مات في المنفى واليأس‏

ومنهم من جاع حتى اشترى‏

بماجناه عفة النفس‏

ومنهم من خان قيثارة باعها‏

بثمن بخس‏

ومنهم من مات في بيته‏

بمرض النسيان والمس‏

وهو يرى إن رحلة الشعر مستمرة والجدد دائما يمتحون من نبع السلف، لاينكرون فضلهم بل يبحثون عن أشياء جديدة تليق بهذا العصر وهؤلاء يخرجون من شرانقهم متسلحين دائما بحب كبير وسام هو حب الشعر:‏

من يهز مجرّة هذا الكون الشعري‏

المسكون بروح الأسلاف‏

كنامثل خراف لم تنبت بعد‏

قوادمها‏

نسبح ضد التيار‏

ونحاول ليل نهار‏

أن نصطاد الثور الأسطوري‏

لنذبحه قرباناً لإله الشعر المتجلي‏

في غبش الأشجار‏

كنا نتحدى‏

أزمنة شاخت‏

وعصوراً تنهار‏

بصواعق من نار‏

كنّا أطفالاً‏

كنّا في الحب كبار‏

في اللغة التجديدية التي تتجلى في شعر البياتي والتي تمثل صورة رائعة للحداثة الشعرية بدلالاتها وتوظيفها الجيد نراه يذكر الينابيع التي غذته وكانت زاده في رحلته الشعرية المظفرة يقول في قصيدة أهداها للجواهري:‏

في سنوات الضوء والبؤس‏

وجدته في مرآة نفسي‏

خرجت من معطفه يافعاً‏

قلت له : ياأبتي هاهنا‏

يعتنق السهمان في القوس‏

شعرك كان الزاد والماء‏

فالتجديد عنده لايعني نكران الجميل لمن سبقوه من الشعراء لأنهم الماء الذي شربه عندما كان بحاجة ماسة إليه والطعام الذي أكله عندما اشتد جوعه‏

وكما يبدو أن الشعراء الذين عانوا في المنافي ووحشتها وجدوا في دمشق قلب العروبة النابض والحضن الدافئ لكل العرب، والملاذ الآمن .. إليها يعودون بعد رحلة التعب حاملين في قلوبهم الشوق لمدينة أخلصت لكل القادمين إليها.. فتحت لهم أبوابها.. شبابيك بيوتها التي يعرش عليها الياسمين الدمشقي يقول بعد أن طاف في شرق الأرض ومغربها:‏

قلت لحادي العيسى بعد السرى‏

هل من سبيل لصبا نجد‏

قال: بأرض الشام أهلي ولي‏

معابد في بحرها الوردي‏

مررت في جنانها يافعاً‏

أحلم بالأمطار والرعد‏

وجئتها شيخاً بعيد النوى‏

وعطرها يفوح من بردي‏

غزالة من ذهب، نجمة‏

تضيء مافاق عن العدّ‏

دمشق صارت وطناً للذي‏

أحبها في القرب والبعد‏

والبياتي من مواليد بغداد 1926اصدر ديوانه الاول عام 1950 بعنوان «ملائكة وشياطين» وديوانه الثاني عام 1954 بعنوان «أباريق مهشمة».. وفي عام 1955 بدأت رحلة الشاعر في المنفى حث أصدر ديوانه الثالث 00 «المجد للأطفال والزيتون» والرابع «اشعار في المنفى» ...كما صدر للشاعر عددٌ من الكتب والدواوين الشعرية منها « كتاب المراثي» عام 1957 وكتاب «تجربتي الشعرية» عام 1968 ،و«الكتابة على الطين» عام 1970 وكتاب «بوابات العالم السبع» 1971 وكتاب «البحر» 1973 «وسيرة ذاتية لسارق النار» 1974 «وقمر شيراز»1975 «ومملكة السنبلة» 1979 «وبستان عائشة »1989 و«الموت في الحياة» وآخر دواوينه التي صدرت قبل موته عام 1999 حمل عنوان «نصوص شرقية».‏

وقد حقق خلال حياته الحافلة بالعطاء حضوراً ثقافياً وأدبياً متميزاً في الأمسيات التي كان يحل ضيفاً عليها وفي المنتديات الثقافية وكثيراً ماتمّ الاحتفاء به من خلال دراسات قدمت عن تجربته الشعرية وتجديده.‏

بيت فلسطين للشعر
29/11/2013





® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com