عودة الى أدب وفن

حلم في حلب - عمرو مجدح



في الحلم سافرت إلى حلب، وتجولت في المدينة بين أشجار السرو والصنوبر مرورا بكنيسة اللاتين العتيقة، وجامع التوحيد بتصميمه الأخاذ، ومآذنه الأربع وهي محاطة بأربع كنائس، فيمتزج صوت الأذان بأجراسها كنشيد محبة وسلام، شدتني تلك الحارات الضيقة ببيوتها والنوافذ والأبواب التي تقترب من بعضها، وكأن الحجارة تحكي لبعضها عن بشر مروا بها، واحتضنتهم هذه الجدران يوما.

اقترب من حديقة بديعة تعرف بالحديقة العامة، ويظهر أمامي تمثال أبي فراس الحمداني الذي نحته السوري جاك وردة. يحرك التمثال رأسه وينظر إليّ، ويقفز من مكانه العالي مقبلا نحوي ومرحبا بي. يأخذني في جولة في حارات المدينة الشهباء، بينما يحكي عن المدينة والقلعة ويقول: إنه أول من اهتم بالقلعة منذ إعلان الحكم الإسلامي في حلب، وجعلها مقرا للحكم ومركزا عسكريا حصينا ضد هجمات البيزنطة. ثم نتابع مسيرنا نحو القلعة، التي رغم كل محاولات التخريب مازالت مبهرة وشامخة، عصية على التشـــويه تشعرك بأنها توأم هذه الأرض، وأن عمرها من عمر المدينة.

تجولت في ممراتها وتأملت منافذها ومخارجها، ووقفت على المشهد الآسر منها، الذي يطل على المدينة كلها، ورأيت أبواب حلب التسعة تفتح أمامي، وعرسا يبدو ملكيا من عصر قديم على مدرج القلعة، يقول أبو فراس إنه عرس الظاهر غازي الأيوبي على الملكة ضيفة خاتون، نعم لقد قرأت عنه هو الأيوبي الذي حكم حلب ثلاثين سنة، وترك فيها من الترميم والعمائر ما لم يسبقه إليه أحد.

خرجت إلى الساحة، وسمعت جلجلة أقدام وظهرت أمامي تلك الصبية وكأنها خارجة من إحدى الروايات ترقص الدبكة، وخصلات شعرها التي بلون الشمس متناثرة حولها وفاء لنذر قطعته يوما ما. وفي الطريق مع أبي فراس الحمداني وصلنا منطقة دار (بني كسرى) وأشار بيده الحجرية إلى أحد البيوت، وطلب مني الدخول، مشيت باتجاه باب البيت الموارب، والتمثال يختفي، عندما دخلت وجدت رجلا جالسا إلى مكتب ويقرأ بصوت مرتفع: كلما رحبت بنا الروض قلنا / حلب قصدنا وأنت السبيل / والمسمون بالأمير كثير / والأمير بها المأمول. وصحت بدون صوت «أبو الطيب المتنبي». تقطع لحظات تأملي مع الشاعر أصوات جماهير، وكأن هناك عرسا فأتحرك خارجا لأتفاجأ باحتفال يتخلله كرنفال، وحشود كبيرة وموكب مغطى بالقطن يسير في الطريق، والناس تهلل به، تتوسطة فتاة جميلة يدعونها بملكة (جمال القطن) يظهر التمثال في جانبي وسط الزحام ويخبرني أن هذا المهرجان كان يقام سنويا في موسم حصاد القطن.

تلفتني مئذنة الجامع الأموي أو الجامع الكبير، كما يعرف عند أبناء حلب تلك التي شاهدتها على التلفزيون، تدك وتتهاوى إلى الأسفل الآن، وأمام عينيّ كما هي كأن شيئا لم يكن مازالت تشق السماء بعلوها. وفي سوق حلب التاريخي ذي الطابع المعماري الساحر مع كل خطوة كان العصر يتغير، مرت سنوات وسنوات شاهدت خلالها تاريخه وفترات ازدهار ثم حرق ودمار ثم ازدهار، وتذكرت القول الشهير (إنها حلب فما العجب). وفي لحظة هدوء في مدينة الطرب التي عرفت كل حجارة بيوتها الموسيقى يظهر مسرح يتراءى للوهلة الأولى مهجورا تصدح منه فجأة القدود الحلبية، ويتجلى (صباح فخري) ويبدو مازال شابا منشدا ومعيد الحياة للمسرح والجمهور بصوته. وأمام ذلك المبنى العتيق (البارون) الذي أسسه الأرمني أرمين مظلوميان عام 1911 الفندق الذي يقصده الكثيرون من محبي التاريخ ليناموا في غرف نام فيها مشاهير العالم قبل عشرات السنين.. رأيت كوكب الشرق (أم كلثوم) تدخل المبنى تبدو عائدة من حفلتها الشهيرة في مسرح الشهبندر الحلبي، أتبعها للداخل، وأحدق بتلك الشخصيات وكأنني في متحف الشمع لكنهم من لحم ودم .. هنا الملك فيصل الأول و(لورانس العرب) و(أجاثا كريستي) وزوجها عالم ومنقب الآثار المستشرق (السير ماكس مالوان) والملك (غوستاف أدولف) و(لويزا) ملكة السويد و(أنغريد) ملكة الدنمارك. كانت الأجواء بين أغنيات ورقصات وأحاديث وهمسات عالم مختلف عن كل المدينة بين حيطان المبنى.

وفي جامع (الملخانة) في باب الفرج «التكية المولوية» التي يعود بناؤها إلى العهد العثماني وتنسب إلى مولانا جلال الدين الرومي، بدأ المولويون بالذكر والإنشاد الديني، والموشحات والمقامات راقبت حركة الدراويش، وهم يؤدون رقصتهم الدورانية التي ترافق عزف الناي بملابسهم البيضاء الفضفاضة، وأثناء الدوران يشكلون حركات لها عدة معان، فتكون اليد اليمنى متوجهة نحو السماء مستعدة لتلقي الكرم الإلهي واليد الأخرى التي ينظر إليها متوجهة نحو الأرض ليعطي الناس ما تلقاه، ثم يفتح ذراعيه وكأنه يحتضن الجميع، أما القبعة العالية فوق الرأس فتمثل شاهد القبر، والتنورة البيضاء تعني كفنها، امتدت تلك الرقصة لساعات فقمت أشاركهم تلك المشاعر الروحانية السامية التي ترتقي بالنفس.. وانتهى المنام حين توقفت عن الدوران، وكنت أصبحت في الحديقة العامة من جديد، ومقابلي تمثال أبي فراس الحمداني جامدا في مكانه العالي.

- كاتب من سلطنة عمان
عن القدس العربي
13/11/2018







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com