|
عودة الى أدب وفن
عقد على الرحيل: كلام في الشعر والنبيذ - رائف زريق
*الشكل والمضمون لدى درويش يعثر أحدهما على الآخر كما يعثر العاشق على معشوقته*
الذات-الجماعة عندما تحدث درويش في الوطن والسياسة واللجوء والمنفى، كان شاعريا وذاتيا. وعندما تحدث عن ذاته وجد الجماعة. إلا أنّ العلاقة لم تكن إقحامًا أو إسقاطًا، ولَم يفرض أحدهما على الآخر تكلفًا. الوطن لم يفرض نفسه على درويش بقدر ما كان شعره يتنفّس الوطن تنفّسًا. فكان الذاتي لا يمتلئ إلا بِما هو خارجه، وكان جوهر الذات يقع خارجها ، كما أن هذا الخارج يبقى خرابًا خاويًا إن لم تجد الذات مرآتها فيه. الحديث عن محمود درويش يبدأ دائما بحيرة كبيرة سرعان ما تؤدي بك الى الخيانة. أي مدخل تختار للحديث عن محمود؟ هل تبدأ في المنفى أم في الوطن؟ الحب أم النبيذ؟ في فلسطين أم في طروادة؟ أي مدخل سوف تختاره سيكون عشوائيا حتما، ولا تستطيع الدخول فيه إلا وعينك على مداخل أخرى أشهى واحلى وأجمل، وفِي اختيارك موضوعا دون غيره تكون قد خنت مواضيع اخرى، وتركتها عزباء في انتظار عاشق آخر يغازلها نيابة عنك. إلّا أّنّ خيانة من هذا النوع قد تكون أفضل مدخل إلى الحديث عن محمود لأنّها قصته ذاتها. محمود ناثرا ليس أقلّ منه شاعرًا- وأنا على يقين منأنّ النثر كان يغار من الشعر، كما أن كثافة المعنى كانت تؤهله ليشق طريقه فيلسوفا، أوأن يكون صحفيا. لكنه منذ صباه صدق حدسه، واكتشف انه شاعر أو أنه ولد ليكون شاعرا، فخان جميع الأدوار الأخرى الممكنة والمحتملة، وأخضع حياته لهذا المشروع، وهو أن يكون شاعرا أو أن يصير شاعرا- كما كان يحب أن يقول. كل شيء في حياته كما ترد في لاعب النرد يبدو صدفةً، لكنّ اختيار القدر لان يكون شاعرا فيبدو ضرورة. إنّ حياة محمود نفسها، وهذا الإخضاع الطّوعي لمشروع شعريّ، لهما أشبه بحياة النبيذ كما وصفها هو نفسه. كتب متأمّلا في النبيذ: "أُأتركه يتنفّس الهواء الذي حرم منه سنين. اختنق ليحمي الخصائص وتخمّر في سباته، وادخر الصّيف لي وذاكرة العنب". لا اعرف اذا كان محمود في نصّه هذا يصف النبيذ فقط، أم يصف نفسه، ويصف تخمّر الشعر وادّخار المعنى. هذا الاختناق- أو هذا الانحباس- الذي يحمي الخصائص، والذي يصفّي الشعر من كل شيء دخيلٍ على الشعر، يزيل من اللّغة كل الشحم والورم، بحيث تتكثف اللغة وتختفي في آن واحد، وكأن اللغة، كلما تكثفت، أصبحت رشيقة اكثر، خفيفة، تطير كالفراشات، وتغيب من شدة حضورها ، فتصير موسيقى. لكن إذا كان هناك من إرث لدرويش في هذا السياق، فإنّه يكمن حصرًا في هذا "الاختناق الذي يحمي الخصائص"، هذا الانحباس المتأني البطيء، هذا الانتظار الأيروسي الطويل للثمرة كي تصل أوج نضجها. هذا الانتظار الذي نجده في النّبيذ، والشعر، والحبّ، كما علّمنا في "درس من كاماسوطرا" عن صبر الحصان المعدّ لمنحدرات الجبال. هناك ما نتعلّمه جميعا من هذا الانحباس، من هذا الاختناق، من هذه القدرة على مقاومة الضغط العاطفي الذي يتعرض لإغراءات الانفلات، والتواصل، والكتابة والتعبير، قبل أن يكتمل وقبل أن يختمر وقبل أن يتشذب. ويتشذب المعنى بالمبنى، ولا يصل المضمون إلى جوهره إلّا بالشكل. على المعنى أن يصمد في امتحان المبنى، أن يحيا رغم محاولة المبنى خنقه. على المضمون أن يكون بحاجةإلى هذا الشكل بعينه دون غيره، حاجة تشبه الحنين، لا حاجة المتسوّل إلى مكرمة الغني. إذا كان الأمر خلاف ذلك، فإنّ العلاقة سوف تنتهي إمّا بالابتذال- اغتيال المضمون للشكل- أوبالإقحام- اغتيال الشكل للمضمون. وحتّى يتمّ تجاوز الإقحام والابتذال، نحن بحاجة إلى حرفة الشّاعر المتمرّس، لأن علاقة الشّكل بالمضمون غريبة عجيبة، علاقة الندّ والصّديق، الغريم والرّفيق في آن واحد. على الشكل والمضمون أن يعثر أحدهما على الآخر كما يعثر العاشق على معشوقته، أو كما يهتدي البيانو على اللحظة المناسبة لينضمّ إلى ارتجال على الساكسفون. لا قانون يرشدنا ولا معادلة. "لا نصيحة في الحب،إنّها التجربة/ ولا نصيحة في الشّعر، إنهّا الموهبة"- كما كتب درويش. يعثر العاشق على معشوقته صدفة، لكن حين ينظر الى الوراء بأثر رجعيّ تبدو الصدفة قدرا محكوما،أو ضرورة كان لا بد لها أن تكون، مشيئة القدر. وهكذا القصيدة الجميلة: حين نقرأها تبدو تعبيرًا عن انسجامٍ وضرورةٍ محكمة، لكنها تخبّئ تحتها صدفةً عثر فيها خيال الشاعر المتمرّس على مفرداته وعلى إيقاع، دون غيره، ترقص عليه المفردات. هذا الإيقاع الذي يُخرجها من المألوف من الكلام إلى شيء ما يشبه السحر، إلى مناطق غير مأهولة من المعاني. وأن تكون شاعرا يعني القدرة على التقاط الإيقاع الخاصّ، الذي هو أشبه بالوحي، كصدفة، ومن ثم تحويله بحرفة ماهر، إلى ما يشبه الضرورة الّتي تأخذ القصيدة شكلا لها. إنّ هذا التّمسك الدّرويشي بالشعر كحرفة لها خصوصيتها ومتطلباتها ورسالتها الخاصة بها، لهو إرثٌ يستحق التمعّن فيه طويلا والتّعلم منه كثيرا. محمود اختار أن يعيش وأن يموت كشاعر، ويجب أن يحاسب أولا وأخيرا على مشروعه الشعري، كما يحاسب الصحفي على مشروعه الصحفي، والعالم على مشروعه العلمي. لا أريد أن يُفهم هذا الكلام باعتباره فصلًا في مديح التّخصص والانعزال عن العالم، والذّاتية المفرطة التي تفقد المرء صلته بالعالم، بالجماعة وبالوطن. هذا آخر ما أريد قوله هنا، وآخر ما سعى إليه محمود ومشروعه. أردت أن أشير إلى أمرين: أوّلا: حين ندرك ونذوّت حقيقة الموت، حقيقة النهاية، فإننا نتنازل عن النظر إلى الأمور من وجهة نظر الله ونستكين إلى محدودياتنا: جسد واحد، عمر محدود، ونقبل هذه المحدوديّة بتواضع، ونقبل أننا نلج العالم من محطةمعينّة، وأنّنانلعب دوراًمحددا وعينيا، وانه كي نستطيع أن نكون ذاتًا فاعلة، ومجرد أن نكون ، علينا أن نكون شيئًا محددًا. أن تكون فعلا، يعني أن تخون جميع الخيارات الأخرى التي كان من الممكن أن تكونها، وأن تكون في مكان ما يعني أن لا تكون في جميع الأماكن الأخرى. ودرويش اختار الشعر ليقيم فيه. ثانيًا: اذا كان هناك دورٌ إضافي نوعي للشاعر، للرّسام، للمخرجيسهم فيه في المشروع الوطني، فيجب على هذا المثقف ان يخلق هذا الحيّز وهذا الفضاء المتميز شكلًا وتعبيرًا، لا أن يكون رديفًا مباشرًا لأي مشروع سياسي وطني، أو مجرّد مرآةأو إعادة لما يقوله القائد الوطني. أي قيمة مضافة للسياسة تكون لشاعر يتكئ على عالم مفردات السياسة؟ السياسة بحاجه للشعر خارجها كي تتكئ عليه.لا احد يتكئ على ذاته. كان على الشعر أن يشق طريقه المستقل حتى يعود يافعًا ناضجًا كي يحاور مشروعه الوطني، وعلى المشروع الوطني أن يفتخر بالشعر كما يفخر أب بابن اشتدّ عوده واستقلّ عنه، منفصلًا عنه واستمرارًا له في نفس الوقت. عندما تحدث درويش في الوطن والسياسة واللجوء والمنفى، كان شاعريا وذاتيا. وعندما تحدث عن ذاته وجد الجماعة. إلا أنّ العلاقة لم تكن إقحامًا أو إسقاطًا، ولَم يفرض أحدهما على الآخر تكلفًا. الوطن لم يفرض نفسه على درويش بقدر ما كان شعره يتنفّس الوطن تنفّسًا. فكان الذاتي لا يمتلئ إلا بِما هو خارجه، وكان جوهر الذات يقع خارجها ، كما أن هذا الخارج يبقى خرابًا خاويًا إن لم تجد الذات مرآتها فيه. هذا الانفصال المفهوميّ المؤقت، لكن الضروري بين الاثنين: بين الشعر والسياسة، بين الوطن والبيت هو الذي يمهد لإمكانية عناقها لاحقا. هذا العناق ممكن، لكن من اجل أن يتحقّق، وكي يكون عناقًا وليس اختناقًا، كان على الوطن العامّ والبيت الخاص أن يدركا تفردهما اوّلًا كي يتعانقا لاحقا. تحية حبّ حقيقية إلى درويش شاعرًا كبيرًا ،أوكما قال المعرّي عن المتنبي: الشاعر بألـ التّعريف (وهذا اقتباس من الياس خوري) ليس لأنّه الوحيد الذي كتب شعرا، بل لإن كل ما كتبه كان شعرًا وشاعريًّا، فكان محمود درويش هو صفة من صفات الشعر نفسه. هذا الشعر الذي بعد وفاة درويش بقي مكسور الجناح، في انتظار تعزيتنا له بفقدانه أحد أعزّ أبنائه قاطبةً. **الكلمة التي ألقاها الكاتب في أمسية "ضيفًا على نفسي"، في الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر محمود درويش، مقهى فتوش-حيفا، 16.8.2018 عن موقع الجبهة 1/9/2018 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |