عودة الى أدب وفن

عالمنا الكامل - بروين حبيب


مئات الآلاف من القصص تُطبع سنويا للأطفال في الغرب، كثير منها يعاد طبعه بعد تعديلات في النصوص أو في الرسوم، ابتكارات لا تنتهي لتقديم القصة للطفل لتدهشه وتحرك مخيلته. برامج مدرسية مكثفة لتعليم الطفل تقنية الحكي وبناء قصة، أفلام تعرض لهم في المدارس وصالات السينما، ومسارح يقادون إليها بفرح ليحضروا مسرحيات مختلفة، بعضها يقدمه أطفال مثلهم. أشياء ليست بالمستحيلة لنحققها نحن، ولكننا عاجزون عن تقديم أي شيء للطفل، حتى إن كان بسيطا بحجم سرد قصة.

لا يمل الأطفال من سماع القصص الخيالية، أبطالها جنيات وسحرة ومشعوذون وفرسان يحملون سيوفا، وتنانين تطير، وحيوانات تتكلم، وآلات عجيبة تسافر في الزمن، وأعاجيب كثيرة يعرف الأطفال جيدا أنها تنتمي لعالم بعيد عن واقعهم، فقد أثبت علماء النفس والمختصون في قصص الأطفال في «بلاد العجائب» تلك التي لا تشبه بلداننا، أن لكل سحرها الخاص، وأنه بمجرد تلفظنا بافتتاحية قصة من نوع: «كان يا ما كان في سالف العصر والأوان» ينفصل الطفل عن واقعه ويرحل بمخيلته إلى عالم القصة، وهو مدرك تماما أن ما يٌرْوى له خيال، وأنه لن يخلط أبدا بين الواقع والخيال، إن اتبعت خطوات سرد القصة بإيقاعه السليم. كأن تنتهي القصة ويطوى الكتاب ونخبر الطفل أننا عدنا لواقعنا «يجب أن ننام الآن» أو «علينا أن نحلم أحلاما جميلة في انتظار قصة أخرى».

في قصص الأطفال، ينتقل الطفل إلى أرض أبطاله، وهناك يلتقي بالأشرار والطيبين، ويشارك في صراع الخير والشر حتى النهاية، لا مجال لانتصار الشر على الخير، لأن مخترعي القصص منذ الأزل أناس طيبون ربما، وتنتصر في داخلهم نزعة الخير، كما عند الأطفال، فقد قيل في ما بعد حين تطورت الأبحاث في مخابر الجامعات العالمية، إن الإنسان نتاج ما صُقل عليه، وإن كنا ننتمي إلى مجتمعات انتصر فيها الشر لبعض الوقت، فلأن تربية ابنائنا كانت أغلب الوقت تتم بتعنيفهم، وتكميم أفواههم، وتهميشهم، ومواجهتهم بوقائع مفجعة عن واقعنا، لقد حرمنا أجيالا بأكملها حتى من اللجوء إلى مخيلاتها لتنعم ببعض ما حرمت منه هدوءا وطمأنينة.

في 2018 لا يزال في أريافنا المنسية على مدى مساحات شاسعة من العالم العربي ملايين الأطفال يلعبون بكرات يصنعونها من بقايا أكياس البلاستيك، يركضون على الحصى الذي يخترق أحذيتهم المهترئة، ويضحكون، ومن سوء حظهم هناك دوما من يزجرهم ليتوقفوا عن الضحك ولعب الكرة، يمنعون من اللهو لأسباب تنبع من قلوب الكبار المليئة بالانكسارات والانهزامات، يُمنعون من اختراع ألعابهم الخاصة، معتقدين أن ذلك يفسد أخلاقهم، ولا بأس من تأديب بعضهم بالضرب والتهديد! وإن كان اختراع كرة يثير كل هذا الشغب والصخب وقيام القيامة وإعلان حالة الطوارئ فهل سيذهب هذا الطفل بعيدا في اختراعاته؟ هل سيخترع شيئا يناسب عمره في العاشرة، ثم في الخامسة عشرة، ثم في العشرين، ثم في الثلاثين، ثم في الأربعين؟ وهل سيعرف أن يبتكر ما يلزمه من أمور تسهل حياته وتسعده وتخفف عنه أعباء «الحمرنة» التي أوقع فيها غصبا عنه، وحولته إلى بغل ينتظر غيره ليبتكرها له ويقتنيها هو بأثمان باهظة؟

تعطيل المخيلة هو أكثر طريقة ناجعة لتعطيل العقل، وقد شرح طبيب الأعصاب الأمريكي برونو بيتلهيم في كتابه «التحليل النفسي لأساطير الجنيات» أن هذه الحكايات تحمل في ثناياها كل وسائل الإنارة اللازمة، لجعل حياة الطفل مضيئة، فهي لا تسليه فقط، بل تعزز من بناء شخصيته، وتزرع في نفسه الصغيرة صفات جيدة يتصف بها البطل، حتى أنه من شدة تأثره بتلك الصفات النبيلة، يحلم أن يكون بطلا، فيقلد أبطال قصصه المفضلة في تمثيليات مع أترابه.

في عالمنا الضيق يبقى لاعب كرة القدم هو بطلنا المفضل، هو الذي ينتقم لكل هزائمنا، هو الذي يفرحنا حين ينتصر ويبكينا حين ينهزم…هو الذي يجعلنا ننشد أناشيدنا الوطنية ونحمل أعلام أوطاننا بفخر، ولهذا أجيال بكاملها تأثرت بالكابتن ماجد، وصنعت الكرات التي تمزق الهواء وتدور في السماء قبل أن تراوغ الحارس وتستقر في الشباك، لكن حتى الكابتن ماجد ألغي من برامجنا، وحلت محله رسوم متحركة مقرفة وقصص لا تفهم عبر «الكرتون نتوورك» وغيرها من الفضائيات الخاصة بالأطفال التي توجه تحديدا لنا.

واقع أطفالنا اليوم مطوّق بنشرات أخبار دامية، بصور أطفال دمرهم القصف، وقتلهم البرد والصقيع وهم يهربون من أوطانهم، وأعتقد جازمة أنه يستحيل أن تتجاوز نسبة الأطفال السعداء في البلدان العربية الواحد في المئة موزعين في العواصم التي تشهد بعض الرّخاء، ومع هذا حتى هذه العواصم بكل أبهتها، لا نجد فضاءات مخصصة للحكايات التي تسرد للأطفال، إذ يعتبر جمهورنا الواسع اليوم بأغلب مثقفيه ومتنوريه وسياسييه وأمييه وجهلته سواء، أن مهنة «الحكواتي» مهنة حقيرة، وأن سرد القصص للأطفال طريقة لتلويث عقولهم.

وحتى العارفون بالأمر جيدا من أطباء وسيكولوجيين ومختصين في التربية يمارسون مهنهم كما يمارس «موظفو الدولة» وظائفهم في مكاتبهم، ولا يختلفون عن تلك الماكنات الآدمية التي تعمل مثل الآلات، غالبا تفعل ذلك حفاظا على باب رزقها، مفرغة تماما من أي مشاعر إنسانية. وما نراه فيهم هو نتاج تلك التربية القاسية، التي قتلت الجانب الإنساني فيهم، وقزّمت كل طموح نما من بذرة حلم قديم. فات هؤلاء جميعا أن يكونوا أبطالا لحكاياتهم، وقد فاتهم أن يكبروا كما يجب، فالسر في الحكاية أنها تجعل الطفل يكبر ليصبح رجل الغد، وهذه حكمة قالها عباقرة الأدب منذ شكسبير إلى يومنا هذا، منذ عرفوا مفتاح أبواب الخير والشر، وأي الأبواب يجب فتحها وأيها يجب إغلاقها. غذاء الطفل الأول هو الكلمة، وإن لم نكن حريصين في انتقاء تلك الكلمات التأسيسية لمكونات عقله، فإن العواقب تكون وخيمة.

خلق التواصل بين الطفل وأبويه، وبينه وبين أساتذته، وبين محيطه من كائنات بشرية ونباتية وحيوانية هو الحجر الأساس لطفل سوي، وفرد مستقبلي سوي يُعوَّل عليه لخوض غمار الحياة. قصة الطفل رغم بساطتها تحوي كل عناصر الحياة، الكلمات، والأشياء والعواطف، الأخطار والشرور، الغضب والحكمة، الأنانية والقبح النفسي وجمال الروح. في قصة الطفل عالمنا الكامل الذي لا نراه جيدا ظنا منا أن عالم الكبار مختلف، في ما لا شيء يختلف غير أحجامنا، فأحيانا حين يفوتنا قطار التعلم نجد أنفسنا نتعلم من أولادنا، إذ ثمة خيارات دقيقة يقوم بها الأطفال على فطرتهم، وهي خيارات رصينة تنتصر للخير دائما، ولا شيء يجعلهم يغيرون آراءهم تلك إلا الخوف، وهو مهنة الكبار بدون هوادة للأسف.

* شاعرة وإعلامية من البحرين
عن القدس العربي
5/2/2018








® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com