![]() |
|
عودة الى أدب وفن
الممكن في بداية كل سنة - بروين حبيب
![]() ما الفارق المهم بين أيام قضيناها في روتين ممل، ولحظة فاصلة نسميها لحظة الصفر لبداية سنة جديدة نعتقد بإيمان غريب أنها ستحمل لنا أشياء جميلة؟ ذلك الخيط الرفيع الذي لا نكاد نشعر به ونحن نعبره لضفة سنة جديدة، هل هو حقيقي أم وهمي؟ تقول الحكمة: «لا تثق في المستقبل أبدا، إنه خائن» وتصب هذه الحكمة في بحر من المقولات المشابهة، كلها ولدت من صلب التجربة الإنسانية، فلماذا نحتفل ببداية كل سنة إذن؟ لماذا كل هذا التفاؤل للقاء مستقبل غير موثوق فيه؟ كل هذا الفرح بضيف متنكر بقناع مهرّج مبتسم، يخفي تحت ألوان قناعه الكثير من المفاجآت المتقلِّبة. لا تفسير في الحقيقة لتفاؤل بعض الشعوب بهذا اليوم، ولا بفرحهم وهم يدفنون سنة مضت في مقابرهم الوهمية، إنها الجنازة الوحيدة التي يقودون فيها فقيدهم إلى مثواه الأخير، وهم مجتمعون حول وليمة دسمة ومبتهجون، يغنون ويرقصون، حتى آخر لحظة، وهي لحظة عجيبة تلتقي بميلاد سنة جديدة… هل هي حكمة الحياة؟ فكل شيء يؤول للموت، لا خلود لمخلوقات الله على أرضه، لكن كل ميت يأتي ما أو من يعوّضه، في حركة مستمرة لا تعرف التوقف منذ خلق الله الكون إلى اليوم. أمّا الأسئلة التي أثيرت حول فلسفة الزمان والمكان، ورسمت الكون بما فيه من مخلوقات على معلم رياضي، لم يقرّب لنا الصورة التي رسمت في أذهان الفلاسفة الكبار وعلماء الرياضيات. كل ما قيل ويقال يبقى حبيس جدران الجامعات الكبرى في العالم، أما أسئلتنا نحن فتنطفئ في معتقداتنا التي لها سقف يحمينا من غرابة الأسئلة. كل فكرة أنجبتها حضارات العالم السابقة نسفت عند حدود عقيدتنا بقطيعة عقائدية لا دخل لها بعلوم فهم الكون وماهية الزمن وارتباطه الوثيق بحياتنا. فقدنا بوصلات كثيرة كانت موجودة، إما بإهمال وجودها أو برفضها تماما، ورفض العتبة المتينة التي أسست للمعرفة، ومكنت غيرنا من التقدم، ومكنتنا فقط من البقاء على قيد الحياة ككائنات حية. ولعل أجمل ما قرأت حول مفهوم الزمن ما قاله القديس أوغسطين في اعترافاته «ما هو الزمن إذن؟ إذا لم يسألني أحد فأنا أعلم، وإذا رغبت في شرحه لسائل ما فأنا لا أعلم». شيء بالغ في التعقيد، شيء لا يمكن إلإمساك به، ولا حصره في إطار بعينه إلا إطار الكائن الحي، أو الخَلق بما يشمله من أشياء متناهية في الصغر وأخرى انقرضت رغم ضخامتها وعظمتها. في ليلة رأس السنة، ذهبت بعيدا بتفكيري في هذا الشيء الذي يربطنا ويتحكم في مصائرنا وأقدارنا ولا نعرفه، شيء ينتهي ولا ينتهي، يولد من حيث يموت، وهو في تفاصيله لا شيء وكل شيء، يتشابك مع وجودنا ووجود كل كائن حي وجامد على هذه البســـيطة، معقد أكثر من العقد التي خلق منها دماغنا. هل يمكـــــن استيعابه وهو ينتهي وينبؤنا أنه انتهى ثم ينبــــثق من اللاشيء ويعيدنا لنقطة صــــفر ما لنعـيـش البداية من جديد؟ في دروس الفلسفة التي درسناها في الثانوية، درسنا باكرا مقولات أفلاطون وأقليدس وبطليموس والحسن بن الهيثم وإيمانويل كانط وغيرهم، ثم نسفنا كل تلك المعطيات المبكرة لدراسة الزمن، وأسئلة الخلق وموجودات الكون، كونها لا تتفق مع الطمأنينة الدينية التي ننعم بها حين نسلم أمرنا للخالق على أنه العالم بما خلق، وأنه مرجع كل أجوبتنا العالقة، لم نتحرّك قيد أنملة نحو عوالم المعرفة النيرة، بل عدنا إلى ما قبل أسئلة الهندوس في الموضوع، وما أثاره علماء حضارات سابقة مثل حضارة الأزتيك والأنكا والفراعنة واليونان، حتى الفلسفة الإسلامية نُقّحت بشكل مثير للحزن، فقد أصبحنا بين ليلة وضحاها بعد حملات التنقيح تلك، شعوبا لا تؤمن بالحياة بقدر ما تؤمن بالموت والحياة الأبدية في الآخرة، لهذا ارتبطت كل نشاطاتنا الدنيوية بتأجيل الحياة لوقت لاحق، بدون التحضير لها تماما كما يجب بالأعمال الصالحة. شيء لا يُصدق ولكننا نعيشه، التذكير بالموت حتى في قمة أفراحنا وضحكنا، ومحاولة خفض نسب الفرح لأنها على ما يبدو أخذت مفهوما مختلفا يذكرنا بالنقمة «الإلهية» إن أفرطنا في الفرح الدنيوي. ذلك الخط الفاصل بين الحياة والموت وهو متناهٍ جدا في الصغر، بحيث لا يمكننا إدراكه نعطيه أبعادا مخيفة في حياتنا، ما جعلنا نؤسس لحياة كاملة تشبه الاحتضار، فمنذ ولادتنا ونحن نحتضر حتى نحتضر فعلا ونموت. بالنسبة لليلة رأس السنة لا أعرف متى أصبحت ليلة يحتفل بها «الكفرة» فلا تعنينا لا من قريب ولا من بعيد، مع أنها مرتبطة بتقويم زمني يعمل به أغلب العالم، وكذا كل المواعيد المرتبطة بالزمن في حياتنا، طال التحريم أعياد ميلادنا، وأعياد ميلاد شخصيات مهمة عبر التاريخ، وطال حتى مولد نبينا الكريم محمد، عليه الصلاة والسلام، كان التحريم يلامس ذكرى الولادة كعلامة زمنية مع تناقض غير مفهوم بتقديس الأشخاص.. وبالمختصر يبدو أن الزمن داهمنا بتغيرات لم نستطع مواكبتها، لهذا نقف مشدوهين أمام العالم الذي يحتفل بقدوم سنة جديدة، ويطلق ألعاب النار، ويثمل حتى منتصف الليل، ويتعانق ويتبادل القبلات، حمى عاطفية تصيب أغلب شعوب العالم في هذه الليلة، ونحن بين مقلّد ومتفرج وناقم تبقى مشاركتنا في هذه الاحتفالات بعيدة عن طرح أسئلة حقيقية عن هذا الاحتفال بالوقت، وأعتقد ألا أحد حلل الفكرة على أنها منبثقة منا نحن، لأننا كائنات زمنية بامتياز، سواء أصبنا بهوس الحياة أو الموت، بمعتقد الآخرة والحياة الأبدية أو بنهاية لا حياة بعدها، إذ يبقى الزمن هو المُشَّكِّل الحقيقي لوجودنا، وفرص بقائنا على قيد الحياة مرتبطة بمدى وعينا بقيمة زمننا الخاص بنا، وأكثر من ذلك ما نؤمن به على أنه عمرنا المكتمل، الذي يتحكم فيه الله سبحانه وتعالى هو زمن خارج عن نطاق سيطرتنا، وهذا ما يجعله ثمينا أكثر من أي شيء آخر في هذا العالم. نعم نظرت هذه المرة للعالم من خلال شاشتي ليلة رأس السنة لأول مرة، وأنا أكتشف أني كائن زمني رقمي، وفي لحظة تشبه ضربة البرق القوية، لاحت لي أهمية اللحظة الحاضرة التي أعيشها، فالماضي لم يعد ملكي، والمستقبل أيضا ليس ملكي، أنا لا أملك سوى حاضري لحظة بلحظة، وهو الممكن والمتاح لي لأحقق فيه ما أريد، كل لحظة أهدرها في عمل غير منتج هي موت ما، كل زمن مهدور مني في علاقات معيقة لمشروعي الحالي نوع من الموت، عمر يسرق من عمري ولن يعود أبدا، كل تعثر عاطفي، كل ثورة مزاج، كل تبذير غير مدروس للوقت خسارة ثمينة لا تعوض. الذي أريد قوله هو إنه لا بأس من الاحتفال، ولا بأس من الانعزال في لحظة ما، ولتكن لحظتنا الفاصلة بين ما له قيمة وما ليس له قيمة في سلم زمننا الخاص، تلك هي لحظة الصفر الحقيقية لصنع أنفسنا بشكل مختلف، واعين تماما لقيمة الزمن بالنسبة لنا، أما إن لم نبلغ هذا الوعي فيكفي أن نتبع العامة التي تحسب الثواني ليلة رأس السنة وعند بدء سنة جديدة تنفجر فرحا وحبا ولو لبعض الوقت. و كل عام وأنتم بألف خير… شاعرة وإعلامية من البحرين عن القدس العربي 8/1/2018 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |