عودة الى أدب وفن

البحيرة خلف الريح - د. فؤاد خطيب



كانت النوارس البيضاء تتهاوى وتعلو، تترك البحيرة خلف الريح وتأتيني جالسا هناك على صخرة وجودي. رقصت حولي وزقزقت وصَفقت بأجنحتها مُلتقطة بمناقيرها الصفراء كَسَرات الخبز التي أعددتها لها أمامي على طاولة من صنوبر عتيق.

حَلقت وحَطت وأعادت الكرة ألف مرة ومرة وقد أصبح الوجود سيمفونية حياة، وجود وغياب وموت وبعث ورجوع. تقول الأسطورة ان بحيرة طبريا كانت فوهة لبركان عظيم في غابر الزمان قبل هذا الوجود في زمن حكم هذه الأرض المُعذبة ملك الجن.

ترك هذا البركان العظيم الذي طارت أحجاره وحمَمه ووصلت الى دمشق وصيدا والحمّة وشمال فلسطين وبحيرة الأحلام هذه، بلون الزبرجد والفيروز بين قمم شاهقات تتماوج على حفافها شاهدة على الزمن العتيق وعلى بداية الشق الافرو آسيوي الكبير الذي خلق البحيرة العذبة في فلسطين شمالا ونهر الاردن والجسور الخشبية التي ما زالت أخشابها تئن من لهفتها على وقع من عبروها الى الشتات ومرارته وقسوته منذ سبعة عقود، وتنتظر لحن الرجوع وبحر الموت ووادي عربا والبحر الاحمر وانتهى هناك في الحبشة قريبا من منابع النيل. أقصد البحيرة بين الحين والآخر آخذًا مقعدي على الصخرة الملساء ذاتها على حفاف الروح أتبع زُرقتها العميقة وأمواجها ملاحقًا شمس الأصيل وهي تختفي في اللجج الباردة مهدودة الحيل بعد يوم قيظ عظيم. لم أحاول ولو مرة أن أهيم وأسرح على أديمها كما فعل السيد المسيح بأجمل تجلياته ليوقف عاصفة عابرة سرقت قوارب الصيادين. أبحت في غابات القصب والحلف في المنحنى القريب عن أسد المتنبي الذي ورد الماء كالورد وزأر حتى بلغ زئيره الفرات والنيل علني أسأله عن ابي الطيب وعن حكام مصر الأخاشيد فهم عادوا لحكم وادي النيل وجودهم أبقى في هذا الزمن العربيد.

تَحط ُالنوارس وتطير وتهيم على أديم البحيرة بيني وبين الريح وتعود على بدء كل مرة من جديد .في زقزقاتها حزن وألم دفين باحثة عن أعشاشها في غابات القصب التي ضاعت فيها بيوت سمخ العربية ونَبعة الجواميس وحقول حنطة وكروم أعناب وتين ومئذنة الجامع وشبابيكه المُلونة وأحلام طفولة أصبحت تماما خلف الريح. عندها أكون متماهيا من وجود البحيرة الطاغي جمالا وحزنًا وألمًا دفينا أقول لذاتي مُعزيا ربما كنتُ كورقة الشجر أو كأشعة القمر أو نتوء صخري على حافة هذه البحيرة خلف الريح يحكي للموج حكايات عن شواطئ العمرِ المُمتدة بلا نهاية . ربما كنت كاتبا عشق الورقة والنوارس أو نحلة امتصت رحيق زهر عمر كان هنا ووجود. ربما كنت وما زلت ذاك الصبي تائها في ملكوت الله أعقد عقود الجلنار في كروم بددها الزمن وأطارد النوارس والحساسين وأعقد مع فراشات العمر قصص حب خالدة. لا بد أنني عاشق ومن لا يعشق لن يقف يوما على حد معضلة الوجود وروعة الخلق ومأساة الفناء وبدع تكرر الظواهر.

عن موقع الجبهة
5/7/2017







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com