عودة الى أدب وفن

المحظوظون - بروين حبيب


ماذا لو منحت لنا فرصة عيش آخر يوم في حياتنا لأكثر من مرة لنصحح أخطاءنا، ونتصالح مع أنفسنا ومع من حولنا، ونختم مسلسل حياتنا بنهاية سعيدة ومرضية لنا؟ مثل مسودَّة نكتبها ثم نشطب ونضيف، ننقح ونبيّض، ثم نعيد كتابتها ثم نشطب مرة أخرى حتى نستقر على النص الذي يملؤنا بالطمأنينة وباليقين على أنه اكتمل. ماذا لو كان كل شيء قابلا للتصحيح؟

رواية «قبل أن أسقط» للكاتبة الأمريكية لورن أوليفر تدور حول هذه الأحجية صعبة التحقق، وهي ليست اختراعا عجيبا من صلب مخيلتها الفريدة، لأنها تلخص بشكل ما رسالة غابرييل غارسيا ماركيز الوداعية، وتشبهها في أغلب مقولاتها على الأقل.

نشرت رسالة ماركيز عام 2008، وصدرت الرواية بعدها بسنتين، فترة معقولة لتفكيك مقولات الكاتب المرموق، وإعادة صياغتها حسب المفاهيم الدرامية الأمريكية.

في اعترافات ماركيز الأخيرة نشعر بوخز ضميره وأسفه لأنه أحب أقل، وأهدر الكثير من العمر مثله مثل ملايين البشر، الذين ينشغلون بأمور الحياة الصغيرة، ولا يلتفتون لقلوبهم. يدخلون معترك النمائم والخصومات والركض خلف غنائم وهمية مفرغة من الحب والإشباع المنبثق منه، ويذهبون بعيدا.. بعيدا جدا عن هامش حياتهم، بل إن بعضهم يعيش حياة غيره دون أن ينتبه أنه الأحقّ بعيشها.

«إذا كان مقدراً لي أن أعيش وقتاً أطول، لما تركت يوماً واحدا يمر دون أن أقول للناس إنني أحبهم. أحبهم جميعاً. لما تركت رجلاً واحداً أو امرأة إلا وأقنعته بأنه المفضل عندي، كنت عشت عاشقاً للحب»، هذه إحدى الجمل الجميلة الواردة في رسالته الوداعية، التي لا تزال تطير عبر القارات، والأوطان والشعوب والمجتمعات، رافضة تماما أن تموت، فيما الرجل مستسلم في نومته الأبدية بين قبرين وبين بلدين على غير عادة الموتى، تاركا روحه المرفرفة مع الملائكة تقوم بمهماتها اليومية، كما لو أنه لم يمت. سرّ بقائه في كلماته ووصاياه نعرفه، وليس صدفة أبدا أن يعود في أسبوع مولده (السادس من آذار/مارس) وقد نفذت وصيته سينمائيا من خلال فيلم «قبل أن أسقط» الذي كتبته للسينما ماريا ماجنتي مرتكزة على رواية لورين أوليفر، وأخرجه راي روس ويونغ. رواية كان يمكن أن تظل في الظلال لو لم تُنفذ سينمائيا، خاصة أنها كتبت للناشئة، ورموزها الفلسفية تفوق غرس فكرة الموت المبكر في عقولها. رواية إن لم ترتكز على رسالة ماركيز فإنها تربطنا بها بشكل وثيق يخرق طقوس الغرابة والأعاجيب. بين قوسين وضعتنا الكاتبة أمام معطى رئيسي وهو أن موعد الموت يستحيل تأجيله. حتى إن عشنا آخر يوم في حياتنا مكررا، وقمنا بخيارات مختلفة فيه، ورتّبنا لتفاديه بما يمكن من دهاء وحيلة. إنّه الموعد نفسه بالدقيقة والثانية، ولا مجال أبدا للتملُّص منه. بشكل ما تهمس الكاتبة للعارفين بمواعيد موتهم التقريبية كمرضى السرطان وأمراض عصيبة أخرى، أن تحديد موعد الرحيل فرصة ثمينة للمحظوظين فقط لتغيير مسار النهايات.

تقدم من خلال صبايا القصة نموذجا من نماذج حياة الناشئة، ويكاد يكون نفسه في العالم كله، رغم اختلاف ظروف الغنى والفقر والديانات والهويات بينها. العداوات الصغيرة، والكراهية اللامفهومة، والتنافس غير الشريف من أجل الانتصار، والتميز وأشياء أخرى يصعب تحديدها وفهمها واختصارها.

سامنثا كينغستون صبية تملك كل معطيات السعادة، والاكتفاء ومع هذا في خضم معطياتها تلك تكون لا مبالية، متمردة، ظالمة، تمشي مع قطيع صديقاتها مغمضة العينين والقلب وتتصرف تصرفات متعجرفة، ولن تنتبه لكل أخطائها إلا حين تتعرض لحادث سيارة كبير، لن نفهم في البداية أنه حادث أودى بحياتها وأن استيقاظها في اليوم التالي لتعيش أحداث يومها السابق نفسها لم يكن سوى فرصة ثانية لتصحح أخطاءها الفادحة تجاه نفسها أولا ثم تجاه عائلتها وبعدها تجاه أصدقائها.

لن تفهم نعمة تلك الفرصة في يومها الأول، ولا في الثاني، ولا في الثالث…

ولن نعرف كم فرصة منحت لها لتبدأ باكتشاف جوهر ذاتها، ما تريده وما لا تريده. فتبدأ بتفكيك سلوكها وإعادة بنائه بالشكل الصحيح حتى تمتلئ بالرضى نحو نفسها. مختصر القول هو ما أصعب اقتناص الفرص الثمينة. الأسئلة الكبيرة التي طرحت في الفيلم نفسها طرحها ماركيز، لكنها جاءت أكثر وضوحا من خلال تفاصيل لورن أوليفر. لماذا نكره؟ وما الأسباب القوية التي تجعلنا نكره الآخر؟ ولماذا نظلم؟ ولماذا نهمل من يحبنا ونبالغ في تهميشه؟ بدءا بالأخت الصغيرة التي تصنع لبطلتنا سامنثا عصفورا من ورق ولا تعيره اهتماما، إلى علاقتها المتوترة بأمها، إلى ميلها الغريب إلى شاب فاشل ومثير وتهميشها للشاب الذكي الذي يحبها من أعماقه، إلى كرهها اللامفهوم لجولييت لأن الجميع يكرهها، ندرك أن أغلب تصرفاتنا لا تنبع من أعماقنا، ولا من مصارحة ذاتية تفرز الأمور بين الصح والغلط، وتصنفها بين ما هو مسموح وما هو غير مسموح. تبتلع دوامة التكرار الإيقاع اليومي لسامنثا حتى تجيب على هذه الأسئلة، وتسلك طرقات أخرى مغايرة لخريطة حياتها السابقة. حتى لحظة موتها التي لا مفر منها تسلك أجمل الطرق نحوها فتموت من أجل هدف سام. وفي تلك اللحظة حيث تنتهي القصّة وقد ربطت الكاتبة ألسنتنا بغرابة المشهد، ندرك الحقيقة التي عشنا بقربها دوما ولم تكن الخيار الأول في حياتنا. فأنت تولد وتموت بغير رغبتك، لكن متّسع الرّغبات المتوفرة لديك كبير وممكن بين حاضنتي عمرك. ويمكنك أن تصنع من حياتك نسخا عديدة متشابهة، كما يمكنك أن تجعل منها نسخة واحدة متميزة وهادفة وفريدة وناجحة، وتطيب ذكراك إلى الأبد في قلوب من حولك.

خدع الكراهية لإبعاد الآخر عنك لن تحميك من ألم الوحدة، خدعة السخرية ممن حولك لن تحوّلك بسحر ساحر إلى شخص قوي، أنت هش، أنت في عطش دائم للحب، وهو جبار كالهواء والماء والغذاء، وإمكانية حياتك بدونه مستحيلة.

الألماني باتريك ليندر الذي بدأ حياته طباخا ثم أصبح مغنيا وممثلا مشهورا، واستقر على كونه من الشخصيات المؤثرة في المجتمع قال: «نحن كائنات اجتماعية بالفطرة، نريد أن نُحب ونجد الحب، أنا متأكد بأنك قد سمعت هذه الجملة «ولدنا وحيدين وسنموت وحيدين وسنموت وحيدين وارتباطنا بالآخرين لا يستمر للأبد وهو غريب على حقيقتنا البشرية» هراء… هراء…نحن نبحث عن الارتباط ونريد الحب، نريد أن نشعر بالأمان مع شخص آخر. العزل مؤلم، ويدمّر الرُّوح، إنه السبب الذي وجدت من أجله السجون، إنه العقاب الذي يستخدم لإيلام البشر». ونحن سواء سجنَّا أنفسنا بعيدا عن الآخرين، أو سجنّاهم بعيدا عنّا فإن القضبان نفسها تصنع عزلتنا وتثير فينا الألم الذي يدمر أرواحنا في غفلة منا، حتّى يحين موعد رحيلنا، ولحظتها سينتابنا شعور بالندم لأننا لم نحسن التّصرف تجاه أنفسنا وتجاه كل من نحب.

إفتح سجنك، وأعد تشكيل حياتك بمكونات الحب المتوفرة لديك، فالمفتاح في يدك، وباب السجن لا حارس له سواك.

شاعرة وإعلامية من البحرين
عن القدس العربي
13/3/2017








® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com