عودة الى أدب وفن

اللغة العربية ووجود العرب في هذا العالم - د. نورالدين ثنيو


إن ترسيم اللغة العربية من قبل الأمم المتحدة، لغة عالمية يعني من جملة ما يعني أنها لم تعد قاصرة على العرب فحسب، تحدد وجودهم وتساعدهم في بلورة هويتهم في هذا العصر، بقدر ما صارت أيضا شأنا عالميا يهم كل شعوب العالم ووسيلة تواصلية دولية تعني كافة دول المجتمع الإنساني.

فاللغة العربية، كما ندركها اليوم هي لغة حضارة تتواجد إلى جانب حضارات أخرى، على خلاف مقولة صامويل هنتنغتون، تتبادل التأثير والتأثر في حوار جدلي تلقائي يفيد ويستفيد في ومن كافة المضامير والميادين. فالعربية، في العصر الذي يوسم بزمن العولمة، تراث للإنسانية على اختلاف وتباين المواطنين في هذا العالم الزاخر باللغات والأفكار والمفاهيم التي تساعد على التعايش والتواجد الحضاري والثقافي في اللحظة الزمنية الفائقة. وإذا نحن اليوم نقف على آخر التاريخ وليس نهايته،على خلاف مقولة فرنسيس فوكوياما، يمكننا أن نجيل النظر في لغتنا العربية، من أجل أن نستشف ونستلهم ونستخلص منها أسرار عبقريتها، سواء في التاريخ أو في الحاضر، ولعلنا نكتفي بهذه النقاط:

*أحد أسرار عبقرية اللغة العربية كامن في أصولها، أي كمون الجدة والقدرة على التعبير في عصر الازدهار، كما في عصر الانحطاط، محتفظة ببنيتها تنتظر التجديد والتحديث، كما حدث في عصر النهضة العربية، نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. فالعربية مرت بعصر التقدم والمدنية والعالمية، كما مرت بعصر التراجع والتخلف، ولم تنضب وتتلاشى أو تخرج من التاريخ، كما حدث لكثير من اللغات التي توارت بتواري فعاليتها المدنية والحضارية. فقد استعادت اللغة العربية، بناء على تجربة التاريخ الحديث حيويتها وبُعِثَت من جديد متخطية حالة التَّكلس والعَطَالة والتدهور.

*السّر الآخر الذي يجب أن يُفصح عنه، من خلال أدوات ومقاربات ومناهج البحث العلمي يظهر في مجال اللغة العربية وصلتها باللغات والثقافات الشرقية، وصلة هذه الأخيرة باللغة العربية، لأن الوقوف بالدراسة والمعالجة والممارسة اللغوية، يؤكد مستويات وجوانب وعلاقات أخرى بين العربية واللغات الشرقية التي تعاملت مع النص القرآني والحرف العربي، وكانت بمثابة الروافد التي شكلت الحضارة الإسلامية في عصر ازدهارها الريان. لكن اليوم، في عصر التواجد الحضاري الفوري، سوف ندرك أكثر تجليات وأسرار عبقرية اللغة العربية في صلتها بالحضارات الفارسية/ الإيرانية والعثمانية/ التركية والأوردية… يساعد كل ذلك على تكوين كتلة حضارية جديدة في منطقة جغرافية تتمتع بحيوية استراتيجية وبعمق تاريخي مؤثر. فاللغات الشرقية على تنوعها واختلافها تتوفر على ثروة من المعاني والدلالات وقوة من الإيحاءات والاستلهامات تزيد من صلة اللغة بالكون الطبيعي والإنساني وحتى الأخروي. ولعلّ ما تترجاه الإنسانية في هذا العصر الفائق التطور هو حضارة تستوفي هذه الأبعاد جميعها.

*أبرز مظاهر الحداثة في اللغة العربية هو أدب المهجر، الذي أنتجه شعراء وأدباء عرب في بلاد بعيدة من ديارهم التاريخية. فقد لازمت اللغة العربية قريحة مبدعين عرب أسسوا مطلع القرن العشرين لتيار حديث يوظف اللغة العربية في بيئات وأجواء ومناخات مختلفة ومتعددة، ساعدتهم على التكيف مع المكان الجديد في لحظته التاريخية في كل تجلياتها وزخمها، على ما يبيّن تراث ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، فأدب المهجر لغة جديدة عبّرت عن توق وتطلع غير معهود في حياة الإنسان العربي، يأخذ من معين دنيا جديدة مفعمة بالمدنية والجمال والحضارة والرقي العمراني والإنساني.

*ظهرت حداثة اللغة العربية في قوتها الإجرائية عندما استندت إليها الحركات التحررية في العالم العربي لحظة مواجهتها للاستعمار الأوروبي. فقد استبطنت هذه الحركات اللغة العربية كرهان لوجودهم القومي، وأنَّ اعتبارهم عربا يفرض عليهم التماس اللغة كأفضل مقَوِّم للشخصية القاعدية التي تعبِّر عنهم وعن شرعية وجودهم ككيان مستقل في منظومة عالمية جديدة لا تقر إلا بالشرعية الدولية. وعليه، فاستعادة اللغة العربية في البلدان التي شهدت الاحتلال الأجنبي، كان بمثابة استعادة حق الوجود الشرعي في الزمن الحديث وزاد الحث على ذلك في الزمن الفائق الذي يشترط العالمية في التعبير وفي التوثيق. إن اللغة العربية، كما طرحت زمن الاستعمار، طرحت كمسألة لوجود كيان عربي، وليست مجرد لسان تعبير لقوم من البشر، فالتوكيد على اللغة بالعناية والتعبير والإبداع بها هو الطريق المفضي إلى الاستقلال التاريخي للأمة وأساس بناء الدولة وفق المفهوم الحديث الذي يشترط مقومات الأمة كقاعدة ركينة لها، أي الدولة/ الأمة. وصلة اللغة العربية بكيان الدولة هي التي جعلت البلدان العربية المستقلة حديثا تسارع إلى اعتماد اللغة العربية لغة رسمية في دساتيرها، حماية لها كشخصية اعتبارية ومعنوية.

باحث وكاتب جزائري
عن القدس العربي
1/3/2017









® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com