عودة الى أدب وفن

يا زمان الوصل بالأندلس.. - سلمى العطي



سقطت غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس سنة 1492 لتنتهي بذلك فترة ذهبية من التاريخ الإسلامي، ويأفل نجم الأندلس من صفحات التاريخ، بعد أن قدمت أدباء وعلماء رسخوا في صرح المعرفة وأثروا دروب العلم والأدب بآثارهم. وبقيت الأندلس، منذ سقوطها، كلَما لم يندمل في الوجدان العربي، فبكاها الشعراء ورثوا موتها السياسي بالعِبَرات والعَبراتِ، بالألم والقلم. ومن أشهر ما أُلف في رثاء الأندلس موشح لسان الدين بن الخطيب الذي تغنت به فيروز بصوتها الشجي ويقول فيه:

جــادك الغيــث إِذا الغيـث همـى

يــا زمــان الــوصل بــالأَندلسِ

لـــم يكــن وصْلُــك إِلا حُلُمـا

فــي الكــرى أَو خُلسـة المخـتَلِسِ

صدق الشاعر، فلم تدم سنوات الوصال واندثرت بين صفحات التاريخ ولم يبق منها إلا الكتب التي تؤسس- كعادتها- لفعل الشهادة التاريخية. إذ يشهد الأدب على تصور الأندلسي للحياة والإنسان والكيان. فحين نقرأ كتاب «طوق الحمامة في الألفة والألاف» لابن حزم الأندلسي، نتبين أخبار العشاق وقصصهم الشيقة بين أرجاء قرطبة. فيُحدثنا ابن حزم عمن عشق من القضاة والأمراء والشعراء، بل يخترق الأفضية الحميمية فيخبرنا ”بنقل الثقات” عن تجارب عشاق تعرضوا لآفات الحب من واش وعاذل ورقيب، ويشكو عشقه لنُعم التي بكى لموتها على جمود عينه. ونظم ابن عبد ربه ”العقد الفريد” من حبات أدبية تروق القارئ وتُؤنسه فكان موسوعة أدبية تروي ظمأ شغوف الأدب، ليغدو كما أراده صاحبه ”جوهر الجوهر ولباب اللباب”.

ولم يغب الشعر عن الأدب الأندلسي، فراج وصف الطبيعة وتغنى الشعراء بالماء والخضرة والوجه الحسن، وصارت الطبيعة محرابا مقدسا يلقي الشاعر في أرجائه قصائد من شتى الأغراض الشعرية ويعدها الأم الرؤوم التي تلهمه الشعر كربات الشعر في الميثيولوجيا الإغريقية، فإذا هي نعيم وفردوس يُمتع الأبصار ويسحر الألباب، ولذلك قال ابن خفاجة لأهل الأندلس

يَا أهـلَ أنْدلـُس لله ِدركُم

مَـاء وظِـل وأشْـجَـار وأنْهَـار

مـَا جـنة الخلد إلا في ديـاركم

ولَـوْ تَخيرتُ هَـذا كنـت أخـتـارُ

وحضر الحب في النثر والشعر على حد سواء، فللغزل نصيب مهم من الشعر الأندلسي، أثثه الشعراء بآمالهم وآلامهم، واشتهرت قصة الحب التي جمعت ولادة بنت المستكفي بابن زيدون، وبقي أنين هذا الشاعر في ”نونيته” نغما يتردد على لسان كل عاشق قوبل عشقه بالصد وحبه بالهجر وعرف حرقة البين ولوعة الجفاء.

أضْحَى التنائي بَديلاً مِنْ تَدانِينَا

وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا

أدرك الشاعر العاشق أن ”لكل شيء إذا ما تم نقصان” فرثى زمن وصال الحبيبة، ورثى بعده الشعراء وصال الأندلس، كأنها تلك الحبيبة المرتحلة مع الظعائن في القصائد الجاهلية، فيقف الشاعر على أطلالها يستحضر زمن الوصال الموؤود، فكتب عنها أبُو البقاء الرندي في قصيدة عُدت من أجمل ما كُتب في رثاء الأندلس:

لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ

فلا يُغرُ بطيب العيش إنسانُ

هي الأيامُ كما شاهدتها دُولٌ

مَن سَرَهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ

مضت السنون والقرون، وبقي الكلَم جرحا نازفا يردده الشعراء بعيدا عن تخوم المكان والزمان، فلما أبصر نزار قباني في مدخل قصر الحمراء فتاة حسناء تذكر حسن الأندلس ومجدها التليد، ورأى في وجه الصبية السمراء ملامح عربية، وأعاده التاريخ بالذكرى إلى زمن الوصال..

فِي مدخَلِ الحمراء كان لقاؤُنا

مَا أطيب اللقيَا بِلا ميعَاد

عينان سوداوان في حجريهما

تتَوالدُ الأبعادُ منْ أبعاد

هل أنتِ إسبانية؟ ساءلتُها

قالت: وفِي غرناطَة مِيلادِي

غرناطة؟ وصَحَت قرونٌ سبعة

في تينك العينينِ بعدَ رُقاد

وعبّر نزار قباني عن حنينه للأندلس شعرا، وسعى الباحثون المعاصرون إلى تأريخ الحقبة الأندلسية وأدبها فألفوا كتبا عديدة حول الحضارة الأندلسية، مثل موسوعة تاريخ الأندلس لحسين مؤنس وكتاب سلمى الخضراء الجيوسي الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس في جزأيه الصادرين عن مركز دراسات الوحدة العربية وكتاب دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان. ولئن سجلت كتب التاريخ المسار السياسي فإن الأدب صور الحياة الأندلسية اليومية بقِيمها وشرائحها الاجتماعية المختلفة، ونقل بواطن الإنسان الأندلسي عاشقا وحالما، يائسا وآملا، واجلا وآمنا. انتهى زمن الوصال وبقيت الأندلس كوشم في الذاكرة، عرفنا من ولادة الفخر في قولها ”أنا والله أصلحُ للمعالي، وأمشِي مشيتي وأتيه تيها” ورأينا في عباس بن فرناس الطموح لبلوغ عنان السماء حتى ينافس الإنسان الطير في صولاته. وعشنا مع حي بن يقظان، بطل ابن طفيل، حيرة السؤال وقلق الطريق، وأبصرنا بعيون ابن خفاجة رونق الطبيعة وسناءها الأخاذ، وتعلمنا من ابن رشد البحث عن اليقين وحب الحكمة، وأدركنا من سقوطها أن زمن الوصال زائل لا محالة ما لم نحافظ عليه…

* باحثة في الأدب والسيميائية / تونس
عن القدس العربي
7/2/2017







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com