|
عودة الى أدب وفن
النزول إلى الماء - معين بسيسو
علمتني الزنزانة السفر لمسافات بعيدة، وعلمتني أيضاً الكتابة لمسافات بعيدة. فالسجين دائماً يسافر بيده في الماء ويحاول الكتابة بصوته. ثلاثة اشهر لم نر فيها جريدة ولا كتاباً. أحد المعتقلين لتخفيف هول العذاب، طلب القرآن فأحضروا له التوراة! قالوا إن الزنزانة نجسة، والقرآن لا يدخل الزنزانة. هكذا فرضوا علينا نحن المعتقلين الفلسطينيين في السجن الحربي آلهة إسرائيل. وهكذا عاد شمشون الإسرائيلي من جديد. لقد تركناه في غزة كومة من الحجارة فوقها قبة صغيرة ما تزال حتى الآن إلى جوار المدرسة الوطنية، فأعادوه لنا الآن سجاناً في السجن الحربي.
* * *
على حائط الزنزانة يكتب المسجونون أسماءهم، يحفرونها بزرّ قميص أو بمسمار. أول ما يفعله السجين هو أن يكتب اسمه على حائط الزنزانة. إنه دائماً يكتب اسمه وتاريخ دخوله السجن والوطن الذي جاء منه. وكبشارة للسجين الذي سيأتي للزنزانة بعده فالسجين دائماً قبل خروجه يكتب تاريخ الإفراج عنه كأنه يريد أن يقول لابنه أو لحفيده السجين القادم: ـ ما سجن انبنى على سجين. ـ ولا مستشفى انبنت على مريض… * * * عليك أن تسافر فباب الزنزانة في السجن الحربي يفتح ثلاث مرات في اليوم. مرة في السادسة صباحاً حينما تمد يدك وتتناول (القروانة) وفوقها الرغيف، وبعدها تخرج جردل البول، فمسافة العشرين متراً إلى دورة المياه كان ممنوعاً على السجين أن يمشيها، فهم لا يريدون أن تتذكر أبداُ أنك كنت تمشي ذات يوم. إنهم في حرب مستمرة ضد ذاكرة القدم. ويفتح باب الزنزانة في الواحدة بعد الظهر على القروانة نفسها وفوقها الرغيف. الكلب البوليسي (لاكي) قد أكل قطعة اللحم في حجم رأس الدجاجة. في الشهر الرابع كان (لاكي) يمضغ قطعة اللحم فقط ويبصقها إلى جوار القروانة. وعليك أن تمد يدك وتتناولها وتأكلها أمام السجان. كان (لاكي) هدية من ألمانيا الغربية، ضمن برنامج المساعدة الاقتصادية، وفي الواقع فقد أكل من اللحم وشرب من المرق أكثر بكثير من الذي قدمته ألمانيا لإنعاش الفلاحين المصريين. وكما أن الكتابة تجيء في خطوط مستقيمة، هكذا تعلمنا الكتابة، غير أن الزنزانة تعلمك كتابة جديدة. والزنزانة تفتح للمرة الثالثة قبيل الغروب. القروانة نفسها وفوقها الرغيف ويغلق باب الزنزانة بعدها حتى السادسة صباحاً. * * * على حائط كل زنزانة يحاول السجين أن يرسم سفينة أو طائراً. فالسفينة في السجن هي دائماً هدية السجين القديم للسجين الجديد: ـ لن يتمكنوا من قتلك ما دمت تسافر. إنها وصية السجن الخالدة. والسجان (الجوهري) كان يريد أن يسافر هو الآخر خارج أسوار السجن الحربي. فالسجان يعتبر نفسه سجيناً، وهو سجين بالفعل، فلقد كان السجان (الجوهري) يسافر بصوته. في الليل كان يغني لنا، كان يغني للمعتقلين الفلسطينيين الذين ضربهم وجعل الكلب (لاكي) يعضهم. كان (لاكي) يعضك في صدرك وفي ظهرك، في كتفيك وفي فخذيك دون أن تسيل قطرة من الدم. كأنه كان يضع قفازات في أنيابه، هكذا علموه كيف يعض حتى لا يتمكن السجين من النوم على صدره ولا على ظهره. ـ أنت واقف يا ابن الكلب، أقعد! ويقعد المعتقل الفلسطيني الذي تعود القعود خارج أرضه. ـ أنت قاعد يا ابن الكلب، قف! ويقف المعتقل الفلسطيني الذي تعود الوقوف خارج أرضه. هكذا كنا نقعد ونقف طول النهار وجزءاً كبيراً من الليل. والسفر كان مستمراً أيضاً طول النهار وطول الليل. مرة واحدة في الأسبوع كانوا يقدمون لنا بيضة عند الفطور. فجأة تتذكر أنه يمكن أن يخرج من البيضة شيء ما، فإذا كنت لا تستطيع أن تحطم قشرة الزنزانة وتخرج، فهنالك شيء ما يمكن أن يحطم قشرة البيضة ويخرج. لم آكل البيضة، وكنت أتصور طول الوقت أن منقاراً صغيراً سيضرب القشرة ذات يوم. ولقد طال انتظاري. * * * صعود الجبل لا يتم في خط مستقيم وكذلك السفر داخل الزنزانة. فحينما تسافر في مركب لأول مرة فعليك أن تتعلم أخطاء الموانئ وأخطاء الجغرافيا. كان سيد درويش هو القصيدة التي قاتلت بها وأنا صغير وأقاتل بها حتى الآن ضد الأصوات المعلبة. عبثاً حاول الدكتور لويس عوض أن يقنعني أن أحمد شوقي كان أعظم من المتنبي. أول من نشر لي قصيدة في مصر كان شاعراً مصرياً اسمه عبد الرحمن الخميسي. وأول من دافع عن ديوان شعري الأول كان صحفياً مصرياً يكتب الشعر اسمه: كامل الشناوي. كان كامل الشناوي هو أول من قدمني إلى توفيق الحكيم عام 1952 في مبنى الأهرام القديم. أخرج كامل الشناوي ديوان «المعركة» من درج مكتبه وقدمه لتوفيق الحكيم وقال: ـ إسمع. وراح يقرأ قصائد ديوان «المعركة»: ـ أنا إن سقطتُ فخذْ مكاني يا رفيقي في الكفاح. كانت القصيدة عن عباس الأعسر، أول شهيد لحركة أنصار السلام المصرية في قناة السويس عام 1951. في مطبعة (أورفند) تم طبع ديوان «المعركة» قبل حريق القاهرة بيوم واحد، كان أول شيء يحترق، وخرج الديوان يسجل رفضه للدخان. لقد رسمته مجموعة من الرسامين المصريين: حسن التلمساني، حامد ندا، فريد كامل، صلاح جاهين. وصدر الديوان عن دار الفن الحديث، التي كان يشرف عليها إبراهيم عبد الحليم. بعد أن قرأ توفيق الحكيم الديوان، طلب توقيعي عليه، كان يتصور أنني احمل مسدساً ولكني كنت لا أملك قلماً. كنت طالباً في الجامعة الأمريكية في القاهرة عندما ظهر ديوان «المعركة»، وكتبت عنه بنت الشاطئ مقالة في جريدة الأهرام ـ لا أدري كيف ـ وحينما أغراني عبد الرحمن الخميسي بالذهاب إلى مجلة الرسالة لقبض المكافأة، أصر أحمد حسن الزيات على أن يرى الشاعر الذي كتب هذه القصائد. كان يظن أنني جئت إليه دكتوراً من السوربون، فإذا بي ذلك الطالب في الجامعة الأمريكية. * * * المطر هو أعظم أصدقائي، وحينما كان يسقط المطر كان يتسرب إلى قفل الزنزانة ويفتحها فتخرج. والسفينة دائماً أمام باب الزنزانة في انتظارك. تسافر الآن في القمح. حينما تخلط لونين يخرج لون ثالث. فماذا كان يحدث حينما كان السجان يخلط بكرباجه مائة صرخة لمعتقل؟ العذاب يأتي دائماً من خارج الزنزانة، فحينما يبدأون في تعذيب جارك في الزنزانة المجاورة، يبدأ العذاب بالنسبة لك، أنك تنتظر دورك وهم يعرفون كيف يطيلون عذابك في الانتظار، فقد لا يأتي دورك في هذه الليلة ولكن ألسنة النيران بدأت تشتعل في عظمك. كل صرخة تأتي إليك من خارج الزنزانة لسان نار. دخان النيران يتسرب من جسد جارك المعتقل. إنهم يذبحونه بالنار ويخنقونك بالدخان. الدخان يتسرب إلى الزنزانة إبراً ومسامير. إنهم يدقون الدخان إبراً ومسامير في عظامك. لقد أدخلوك في التجربة ويجب أن تتذكر شيئاً ما لكي تتمكن من المقاومة. تدخل كل الأصوات إلى زنزانتك مختلطة كأنها صراخ البط البري حينما يسقط في الشرك. محمد مهدي الجواهري، لماذا يحوم كل هذا الذباب الأزرق فوق أصابع يديه الآن؟ لقد دخل مصر بدعوة شخصية من الدكتور طه حسين حينما كان وزيراً للمعارف في عهد الوفد المصري. الدخان يتحول إلى ذباب. صدقي باشا يدخل البرلمان وفي يده ديوان «إصرار» للشاعر المصري كمال عبد الحليم، وهو يصرخ: ـ الشيوعيون في شوارع القاهرة! في ذلك الوقت كانت القصائد في شوارع القاهرة! من «دفاتر فلسطينية»، 1978 مجموعة غزّة الشمسية عن الشاعر الفلسطيني (1926ـ1984)، كتب محمود درويش: «إن سيرة المنافي والزنازين كما عاشها، ورواها، وأنطقته الوضوح الحاد، والغرابة الخشنة، وجعلته أحد المعبرين، بامتياز، عن لعنة المكان الفلسطيني، هي سيرة الانتقال المعاكس للبطل التراجيدي من النص إلى الواقع. إذ لا نستطيع أن نماثل بين ما نقرأ وما نعيش، لا في النص الماضي الذي روى عذاب غيرنا، ولا في النص الحاضر الذي لا يستطيع مقاربة عذابنا.لا، ليس لهذا الرحيل من مثيل، وليس لاندفاع هذه الخيول إلى هذه الهاوية – الجنة من موروث. لذلك كان البطل فينا، لا البطل التراجيدي، هو مَنْ يقوى على مواصلة حلم مسيج ببنادق الأعداء، الذين تعددت أسماؤهم، واختلطت لتعمق حاسة الفلسطيني بأنه وحيد على هذه الأرض، وحيد مع الأرض الوحيدة مع ذاتها. إن ، مواطناً بلا وطن ومنشداً بلا نشيد، يمثل هذه الصلابة الخارقة، صلابة الحلم في جسد يمزقه الرصاص من كل جهة ونظام. كان يدرك أن المنفى يأخذه إلى منفى آخر. كان يدرك أنه يدور حول غزة، مجموعته الشمسية الخاصة، التي تمثل ملكية أحلامه الخاصة وذكرياته الخصوصية، ولا ترتخي قبضة يده الممسكة بجمرة الحلم. وكان يؤمن بأن للقصيدة طاقة الملموس الفاعل». رحل بسيسو عن 14 مجموعة شعرية، منذ العام 1952 حين صدرت «المسافر»، بينها: «الأردن على الصليب»، «قصائد مصرية»، «فلسطين في القلب»، «مارد من السنابل»، «الأشجار تموت واقفة»، «كرّاسة فلسطين»، «قصائد على زجاج النوافذ»، «آخر القراصنة من العصافير»، و»حينما تُمطر الأحجار». وله أعمال مسرحية عديدة، بينها «مأساة جيفارا»، «ثورة الزنج»، «شمشون ودليلة»، «العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع». كما جُمعت مقالاته النثرية العديدة، وذكرياته في المقاومة ودفاتر الحصار. عن القدس العربي 18/11/2016 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |