![]() |
|
عودة الى أدب وفن
متشائل إميل حبيبي واجه «الاستقلال» والنكبة بسخرية مراوغة - سليمان الشّيخ
![]()
مهما مر من سنين، ومهما تراكمت الأيام ومضت وانقضت، وزاد الجور والاضطهاد والإبعاد والاعتقال ومصادرة الأراضي ونسف البيوت وطرد المواطنين، والادعاء بمسميات جديدة للدولة، أو للمدن والأماكن وإصدار قوانين وإجراءات تصادر الحريات، وأكبر كم من مساحات الأراضي والينابيع، مع ذلك فإن ما بني على باطل فهو باطل، كما إن احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1948، وتكرار ذلك في الضفة الغربية وغزة عام 1967، فإنه احتلال أيضا.
وما سمي «الاستقلال» أي الاستقلال عن بريطانيا التي أصدرت وعد بلفور عام 1917، ونادت بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني، فإن ذلك اليوم أي 15 أيار/مايو 1948 هو يوم نكبة الفلسطينيين، وإن أطلقت عليه القوى الصهيونية «يوم استقلالها» أي إعلان إقامة دولة احتلالية على أرض كانت وما زالت وستبقى عربية فلسطينية. صحيح إنه مضى على ذلك اليوم الأسود «يوم استقلالهم»، وفي الوقت نفسه يوم نكبتنا، 68 عاما، إلا أن ذلك التراكم الزمني رسخ في ذاكرات الأجيال الفلسطينية – هي حرب على الذاكرات أيضا – إن النسيان ممنوع في قاموس الذاكرة الفلسطينية، وإن الإرادة المصممة على استرجاع الحقوق، ستبقى نيرانها وقادة ومتوهجة مهما تقادم عليها الزمن، كي تزيل غيوم الاحتلال السوداء، التي تراكمت وامتدت، وحماها من أوجدها من المستعمرين القدماء والجدد والمتجددين، ستبقى ذكرى النكبة حافزا للأجيال كي لا يتوطن مرض النسيان في النفوس، وسيبقى التحدي، تحدي استعادة الحقوق بوصلة توجه الأجيال إلى ما يجب أن تفعل. أما ما تبقى من شعبنا تحت الاحتلال، فإن بعضه وإن تظاهر بغير ما يبطن، فإنه في ملمات كثيرة كشف ويكشف عن جوهره المقاوم للاحتلال والساخر من يوم «استقلاله»، ويراوغ حين تقتضي المراوغة، لأن آلة البطش قاسية وظالمة. متشائل حبيبي في معايشة لا تخلو من استنكار هول ما حدث له ولشعبه، فإن إميل حبيبي الكاتب الفلسطيني الحيفاوي، الذي أصر على أصدقائه وأهله قبل موته أن يكتبوا على قبره «باق في حيفا»، هو الذي كتب عدة أعمال، كشف فيها عن واقع معاناة من تبقى من الفلسطينيين في فلسطين، ومواجهتهم للاحتلال الصهيوني بأساليب عدة، كان أخطر وأفضل ما كتب هي روايته الفريدة «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، (وكلمة المتشائل هي جمع ما بين كلمتي المتشائم والمتفائل لتكون حصيلتها كلمة المتشائل)، وتضمنت أعلى ما يمكن أن تجترحه قريحة السخرية والتوريات والمراوغات التي لم توفر شيئا في دولة الاحتلال من نقدها اللاذع والسخرية المرة. المعروف أن الرواية صدرت في حيفا بطبعتها الأولى سنة 1974، وأعيد نشرها في بيروت في العام نفسه أيضا، وصدرت منها عدة طبعات في عواصم عربية أخرى. في عنوان حمل دلالات واضحة في السخرية والتحدي، وادعاء الولاء والغباوة، فإن حبيبي سجل التالي تحت عنوان «كيف أصبح علم الاستسلام فوق عصا مكنسة علم الثورة على الدولة»، حيث جاء تحت هذا العنوان ما يلي: «كنت خارجا من السجن، أما كيف دخلت السجن، فذلك حين أفرطت في الولاء، حتى أصبح في عرفهم – أجهزة الاحتلال الإسرائيلي – تفريطا، حين كنت استمع، في ليلة من الليالي الست العفريتية، (حرب الأيام الستة عام 1967) إلى الإذاعة العربية من محطة إسرائيل احتراسا، فأتاني صوت المذيع وهو يدعو العرب المهزومين إلى رفع أعلام بيضاء، فوق سطوح منازلهم، فينامون في بيوتهم آمنين، فاختلط عليّ أمر هذا الأمر: أيهم يأمره المذيع: مهزوم هذه الحرب أم مهزوم رودس؟ المقصود بذلك البلدان العربية التي وقعت اتفاقيات الهدنة مع إسرائيل في جزيرة رودس. قلت أنهزم أسلم عاقبة! وأقنعت نفسي بأنه إذا ظهر خطئي حملوه على حسن نيتي، فصنعت من بياض فراشي علما أبيض علقته على عصا المكنسة، ونصبتها على سطح بيتي في حيفا ولاء الإفراط في الولاء للدولة. وما أن أشرف على الناس هذا الشرشف حتى شرفني معلمي يعقوب بزيارة، وكان يصرخ: أنزله يا بغل. وأمسك بتلابيبي وراح يدفعني على الدرج نحو السطح وهو يشنشن: الشرشف.. الشرشف، حتى بلغنا موضع المكنسة، فانتزعها وتهاوى على حافة السطح وهو يبكي ويقول: رحت يا صديق العمر ورحت معك، فقلت إنني رفعت الشرشف على عصا المكنسة ملبيا أمر المذيع من محطة الإذاعة الإسرائيلية. قال: حمار، حمار! قلت: ما شأني إذا كان حمارا؟ ولماذا لا تستخدمون مذيعين سوى الحمير؟ فأفهمني أن المعني بالحمار هو أنا، وعلقت إذا كان رفع العلم الأبيض على عصا مكنسة يسيء إلى جلال الاستسلام، فإنكم لا تجيزون لنا حمل أي سلاح سوى المكانس. كان صديقي يعقوب يستمع إلى هذياني وهو مشدوه لا يقوى على كفكفة الدمع المنسكب على وجنتيه، فلا يقوى على كفي عن الهذيان، حتى تمالك جأشه، فأوضح لي ما وقعت فيه من التباس، حيث قرر رئيسنا أنه ليس التباسا، بل نفير بشق عصا الطاعة على الدولة. قلت كلها عصا مكنسة! قال نداء المذيع موجه نحو عرب الضفة أن يرفعوا الأعلام البيضاء استسلاما أمام الاحتلال الإسرائيلي، فما شأنك أنت في ذلك في حيفا، التي هي في قلب الدولة، ولا أحد يعتبرها مدينة محتلة. قلت زيادة الخير خير! فقال بل إشارة إلى أنك تعتبرها مدينة محتلة، فتدعو إلى فصلها عن الدولة، والرجل الكبير يعتبر أن العلم الأبيض الذي رفعته على سطح بيتك في حيفا دليل على أنك تقوم بحركة انفصالية عن الدولة ولا تعترف بها. علقت: ألم يسأل الرجل الكبير لماذا لم أولد سوى عربي ، لماذا لم أجد وطنا سوى هذه البلاد. عندها أخذوني إلى غور بيسان وزجوا بي في سجن شطة الرهيب». ذلك ما جاء في الرواية، وهذا ما سجله وما سجل غيره من فصول السخرية على ممارسات دولة الاحتلال في روايته «سعيد أبي النحس المتشائل». صحيح أن حبيبي قد رحل عن دنيانا تاركا إرثا مليئا بالسخرية ومقاومة الاحتلال، وأجيالنا الجديدة الصاعدة تستضيء وتستفيد من ذلك الإرث، كما وإنها تجترح ما يمكن أن يواجه ويقارع ويقاوم المحتل. - كاتب فلسطيني عن القدس العربي 28/5/2016 |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |