|
عودة الى أدب وفن
عبدالحليم حافظ… «عندليب» الظلال الحزينة
حمل شجون جمهوره وخيباتهم
القاهرة ـ «القدس العربي» من كمال القاضي: لا يمكن اعتبار عبد الحليم حافظ مطرباً عادياً، كما لا يمكن أيضاً التعامل مع هذا الارتباط العاطفي والإنساني به طوال السنوات الماضية باعتباره مجرد تعلق طبيعي بمطرب امتلك صوتاً متميزاً، حمل أشجان وأحزان الملايين، القضية لها بالطبع أبعاد أخرى لأن حلاوة الصوت وحدها ليست مبرراً لبقائه في الوجدان الجمعي ما يقرب من نصف قرن، فهناك عشرات المطربين والمطربات اشتركوا معه في هذه الميزة ولم يتحقق لهم ما تحقق له سواء في وجودهم أو بعد رحيلهم. إذن كيف يمكن تفسير لغز عبد الحليم؟ لا بد أن نبدأ من البداية، مولد الطفل اليتيم ونشأته وإحساس الحرمان بداخله وانعكاسه على صوته وإكسابه مسحة شجو شديدة التأثير، فضلاً عن تكوينه الضئيل الذي كان داعياً قوياً للتعاطف معه قبل إصابته بالمرض العضال الذي صار بعد ذلك عنواناً له برر به البعض موجات التعاطف الجارف معه منذ بروزه كصوت جديد يتسلل إلى وجدان الملايين ويتلمس الإعجاب.
تلك معطيات الارتباط الشرطي بين حليم وجمهوره من الناحية الموضوعية منذ بدايته، أما الجوانب الأخرى فتتمثل في طبيعة المرحلة التي ظهر فيها والتي واكبت قيام ثورة يوليو/تموز 52 ونشوء نزعات الاستقلال والتحرر وبداية التغير في شكل الأغنية ومضمونها، سواء العاطفية أو الوطنية، بالإضافة إلى تراجع أنماط الموسيقى الشرقية التقليدية بطابعها الكلاسيكي والاتجاه نحو التطوير، وهي البداية التي بادر بها الموسيقار محمد عبد الوهاب تلميذ سيد درويش فخلق مناخاً مختلفاً شجع على ظهور الشاب الصغير عبد الحليم علي إسماعيل شبانة، قبل أن يمنحه حافظ عبد الوهاب اسمه فيصير عبد الحليم حافظ. بدأ حليم طريقة الفني من كازينوهات الإسكندرية، حيث كان يغني أغاني عبد الوهاب تعبيراً عن إعجابه بها، وتيمناً بالقامة الموسيقية والغنائية الكبرى، وقد لاقى استحساناً منقطع النظير من جمهور الإسكندرية، حيث اعتبروه امتداداً لمطربهم المفضل، لكن العلاقة لم تستمر على هذه الحال، إذ سرعان ما تمرد عشاق عبد الوهاب على الشاب الصغير الحالم حين تخلى عن تقليد موسيقار الأجيال، وحاول تقديم تجربته الشخصية، وكانت قصيدة «لقاء» للشاعر صلاح عبد الصبور التي لحنها له صديقة وزميله في معهد الموسيقى العربية كمال الطويل، لقد رفض الجمهور تماماً تقبل عبد الحليم في غير القالب الوهابي ففسدت العلاقة بينهما! لم يثن ذلك الفتى الموهوب عن حُلمه وأصر على أن يكون نفسه ومضى نحو غايته يطرق الأبواب ويصعد السُلم درجه تلو الأخرى، وكانت الإذاعة هي الجسر الذي عبر عليه صوته فغنى أولى أغانية «لقاء» ثم كانت رائعة محمد الموجي «صافيني مرة « وبعدها الأغنية الأشهر «على قد الشوق «، ثلاث أغان عاطفية رسمت طريق عبد الحليم وخطواته الأولى. نعود إلى المناخ الوطني وظلال ثورة يوليو التي أشرنا إليها كخلفية مهمة لظهور ونبوغ المطرب، حيث كان إسهامه الأول متمثلاً في أغنية « ثورتنا المصرية «التي لحنها له رؤوف ذهني كبداية للون وطني استمر في ما بعد، لكن ثمة خصوصية لهذه الأغنية ظلت تميزها عن غيرها، كونها التجربة الأولى في هذا الصدد، وقد حققت الأغنية نجاحاً معقولاً كان مقدمة لأغان كثيرة بعد ذلك حفظها الجمهور عن ظهر قلب وفاقت في ذيوعها وتأثيرها الأغاني العاطفية. غنى العندليب الأسمر أغنية «ذكريات « للشاعر الغنائي أحمد شفيق كامل وتلحين عبد الوهاب، وهي أغنية ملحمية تروي قصة الاحتلال بشكل مبسط وتبرز الفارق الشاسع بين القمع والحرية، وفي السياق ذاته وللشاعر والملحن مجتمعين جاءت أغنية «ذات ليلة « سيراً على النهج، وتوالت الأغاني «حكاية شعب ــ المسؤولية ــ بالأحضان ــ صورة ــ بستان الاشتراكية ــ راية العرب ــ الاستعمار ــ روح الأمة العربية «، وغيرها من الأغاني التي باتت الآن تراثاً فنياً فريداً. في ظل هذا العطاء المتنوع لعبد الحليم كان ضرورياً أن يحتل مكانة مرموقة ويُقدر التقدير اللائق بموهبته الطاغية المتمددة عبر أزمنة مختلفة، إذ لم يتوقف تأثيره عند مرحلة الستينيات والسبعينيات، بل تجاوز حضوره الفني مراحل تألقه وتاريخ رحيله منذ 30 مارس/آذار عام 1977، وتجدر الإشارة هنا إلى يوم الوداع وما حدث من ردود أفعال هستيرية من جانب محبيه بلغت حد الانتحار، وهي الواقعة التي لفتت الأنظار وشغلت الرأي العام لفترة طويلة ومازالت محل غرابة واندهاش، فالمنتحرة هي «نوال» الفتاة الجامعية التي أحبت مطربها المفضل وعرفته عن قرب ولم تتحمل صدمة فراقه فألقت بنفسها من الشرفة فور سماعها نبأ الوفاة فسقطت صريعة. على المستوى الجماهيري جاء موت عبد الحليم بعد صراع طويل مع المرض مثيراً للأحزان والأشجان، وعاكساً لحالة حقيقية من الحب والارتباط والفقد الموجع، ولعل جنازته المهيبة التي احتشد فيها الملايين كانت دليلاً دامغاً على ذلك وأظن أن وداع المطرب العاطفي على النحو الأسطوري لم يكن فقط وداعاً لعبد الحليم وحده وإنما كان محض وداع لأشياء كثيرة صاحبت مسيرته ومشواره، أولها الدور الريادي للأغنية المصرية الذي كان ولم يعد، ثانيها القيمة الفنية المتضمنة في كل ما غناه عبد الحليم عاطفياً ووطنياً، وذلك البعد العربي القومي الذي كان حريصاً عليه وهو المثقف بالفطرة، الواعي بدورة وقضاياه والمسؤوليات المنوط به تحملها كشخصية عامة مؤثرة ومهمة. لقد تخطى عبد الحليم دوره كمطرب بحكم علاقاته المتسعة بالكُتاب والصحافيين والسياسيين من المحيط إلى الخليج، فضلاً عن مكانته المتميزة لدى الرؤساء والملوك والزعماء.. كل هذه كانت مكونات نجاحه ورسوخه كقيمة مضافة إلى موهبته وذكائه ونضجه ودأبه الشديد وحُسن اختياره للكلمة واللحن وتفانيه في ما قدمه وشكّل به وجدان الأمة، فعاش طويلاً في القلوب، بينما مضت حياته القصيرة 48 عاماً كحُلم ممتع عشناه معه وعاشه معنا. رحل حليم وبقيت الذكرى وبقي الصدى وبقي الصوت يتردد بدون انقطاع حاملاً أجمل الأغاني والألحان منذ الغياب قبل تسعة وثلاثين عاماً وحتى الآن! عن القدس العربي 11/4/2016 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |