|
عودة الى أدب وفن
ناجـي العـلي وحكـايـة الاسـتشعــار والهجـــس بالآتـــي - سليمان الشيخ
من الطبيعي أن يكون للفنان ناجي العلي، اجتهاداته وعلاقاته الوثيقة مع قضيته وشعبه، في تجسيده لبعض الرسومات التي تؤشر إلى مآلات اجتهادية، قد تبين مسار الأحداث التي تتلاحق في الحدوث والتجسيد العملي والتطبيقي على أرض الواقع. وهو الذي يتمعن كثيرا، فيما هو فنان الفكرة في الأساس، ويهجس ويوظف كل ما له علاقة باستشعاراته وتوقعاته، التي تُبنى على قراءات وثيقة جدا للأحداث والتحديات والمواجهات، لتأتي تجسيداته الفنية في بعض اللوحات، وكأنها قد قرأت جيدا الحدث قبل وقوعه، أو أشرت إلى مآلات لا تخرج عن تجسيداته الفنية التنبؤية والتحذيرية المسبقة؛ وبطبيعة الحال الاجتهادية، لكن بعمق الاجتهاد وبتماس حميم مع الأمور والقضايا التي امتحن فيها الفنان نفسه، وأدواته في تجسيد معالجاته الاستشرافية لها.
لو أردنا أن ندلل على اجتهادنا، في ما نذهب إليه، من خلال بعض اللوحات الاستباقية للأحداث، فإننا نجد عجبا واجتراحات، يمكن أن يحتار الناظر إليها في أبعادها التشوفية، التي تتحول إلى يقين، بعد حصول الحدث. فعلى سبيل المثال، فإن الفنان ناجي رسم في جريدة «السفير» رسمة بتاريخ 22/1/1982، أي قبل الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، لوحة بيّن فيها ملامح من دمار الجنوب اللبناني، ودبابة إسرائيلية زاحفة تدمر بيوتا. وعندما كانت بيروت تتعرض للمحق من قبل القوات الإسرائيلية الغازية، وتتعرض للقصف من البر والبحر والجو، اضطر الفنان للانتقال من صيدا إلى منطقة الشويفات، ومنها إلى بيروت ماشيا على قدميه، بعد تخطيه الحواجز الإسرائيلية. وراجت حينها إشاعات بأنه ربما تعرض للتصفية. مع ذلك فإنه وعندما استقر في بيروت وأخذ يشارك الناس معاناتهم جراء القصف والتشريد والتدمير والاستشهاد، فإنه وبنظرة استشرافية تشوفية، ومن بين ركام الدمار رسم لوحة في نشرة «المعركة» تمثل فلاحا حول صاروخا إلى محراث يحرث فيه الأرض، كي يبشر بأن الغد الأفضل آت لا محالة، وأن عربدة السلاح الإسرائيلي وأعوانه لن تدوم، وقد ألحت عليه فكرة تحويل الأسلحة إلى سكك ومحاريث للفلاحة والزراعة، من خلال تحويل دبابة ركب عليها مدفعا هو سكة فلاحة، وقد جرى استعمالهما لحراثة الأرض. هذا هو الفنان ناجي العلي الرائي والمتشوف والمستشعر والمجسد لأسطورة طائر الفينيق الذي ينبعث من رماد دماره ليتابع دورة الحياة والعطاء ومواجهة آلات الدمار والقمع والتخريب. حجارة وسكاكين الحال التشوفية لدى الفنان ناجي العلي، التي كان يجسدها فــــي بعـــض لوحاته، برزت على سبيل المثال في لوحتــين دالتــــين، تتجسدان حاليا من خلال الهبة التي انطلقت في فلسطين المحــــتلة، من خــــلال المقاومة الشعبية المسلحة بالحجــارة والسكاكين. ففي لوحة ذات دلالة تستبطن المســـــتقبل، رسم ناجي لوحة في صحيفة «القبس» الدولية التي كانت تصدر في لندن حينها بتاريخ 8/6/1987 تمثل مواجهة بين حاخام يهودي وفلسطيني، وفي خلفية اللوحة بدت صورة للمسجد الأقصى، أي أن اللوحة نشرت قبل إطلاق النار عليه بنحو شهر ونصف الشهر، علما بأن المواجهات بين الاسرائيليين والفلسطينيين في القدس، وفي ما يتعلق بالمسجد الاٌقصى كانت ما تزال تتوارى في بطن التاريخ والأيام والسنين. أما أوضح تلك اللوحات المعبرة عن هذه الحاسة الاستباقية الاستشرافية لدى ناجي، فإنها تجسدت بلوحته المنشورة في الصفحة الأولى من جريدة «السفير» اللبنانية بتاريخ 31/3/1982، وهي عبارة عن يد صلبة معروقة قوية، تقبض على حجر وتوجهه نحو جهة ما، وتسيل من الحجر واليد حبيبات ماء الحياة تسقي نبتة تبرعم وتنمو، في حين نرى حنظلة الابن الضمير لناجي على كومة أحجار يشارك في قذف الحجارة، أو يناول الأيادي غير المنظورة لتقذفها في اتجاه العدو. في حين كانت انتفاضة الحجارة في فلسطين، هي أيضا في بطن التاريخ.. أقول هذا هو ناجي الفنان التشوفي الذي يستشعر الأحداث قبل أن تحدث. ومن التنويهات الفنية التي يمكن ذكرها في اللوحة الأخيرة ـ قذف الحجارة ـ أنها أظهرت قوة الفكرة التي كان ناجي يغلبها دائما على ما عداها في لوحاته، إلا أنه في لوحته هذه مزج الفكرة المبدعة بالتجسيد الفني المبدع أيضا. كما أنه اشتغل على فكرة اللون ومدى تأثيره في إعطاء الفكرة قوتها وجماليتها، حيث أن أرضية اللوحة كانت مجللة بالسواد، يقطعها بياض الحجارة ولون اليد ولون حنظلة والفضاء المرسوم في الزاوية اليسرى من اللوحة، كي يدلل على أن الأفق غير مسدود بالسواد التشاؤمي، وأن منافذ الأمل تبقيها الإرادات مفتوحة على احتمالات الانبعاث والتجدد، ومحاولة كسر «استاتيك» الاحتلال المخيم على البلاد. كما أن حالة الهبة الشعبية جسدها الفنان قبل حدوثها في لوحته المنشورة في جريدة «القبس» الدولية في 24/11/ 1986، وتمثل «مجلخا» للسكاكين في القدس القديمة يقوم بالتلويح بالسكاكين في وجه مجموعة من الجنود الإسرائيليين. نعم أقول هذا هو ناجي العلي الفنان الاستشرافي الذي كان مهجوسا بقضايا شعبه وأمته الأساسية، وكان يحرك في لوحاته الرموز والكتل والخطوط والألوان، ليعطيها الايحاءات المناسبة لخدمة الأفكار في اللوحات، حتى يمكن القول بأن ناجي العلي الفنان لم تكن استشعاراته واستشرافاته للأحداث مبنية على خيال فني ليس له علاقة بالواقع، إنما لأنه كان ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فإنه كان يفترض بأن ذلك الاحتلال البغيض، يجب ألا يشعر بالاطمئنان والراحة ولو ليوم واحد، وينبغي مواجهته بمقاومة تستعمل جميع الأساليب المتاحة، لذلك فإنه كان يعلي ويمجد أي ظاهرة للمقاومة؛ فردية أو جماعية، إن كان بالحجر أو بالسكين، أو بالمفك أو بالمطرقة وبالسلاح وغيره، في مواجهة المستوطنين وأفراد الجيش ورجال الشرطة من الإسرائيليين. لقد كان الفنان ـ الإنسان ـ ضد الاحتلال وكان يحرض برسوماته ضـــــده، ويأمل بأن تتوســـع وتكبر وتنمو حالات المقاومة، لتصل إلى هبات وانتفاضات، يمكنها إن تعاظمت، أن تكنس هذا الاحتلال البغيض. * كاتب فلسطيني عن القدس العربي 24/11/2015 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |