تشيخوف بأداء ماريا تشوفيلينا.. يحدث هنا الآن - عماد الدين رائف


ماريا تشوفيلينا

«أردتُ أن أقول للناس بصدق وصراحة: انظروا إلى أنفسكم. انظروا كيف تعيشون حياة سيئة. فأهم شيء أن يفهم الناس ذلك، وعندما يفهمون سيشيدون حتماً حياة أخرى أفضل.. وستكون حياة مختلفة تماماً لا تشبه هذه الحياة»، إحدى العبارات التي صدحت بها حنجرة الأديب الروسي الكبير أنطون تشيخوف قبل مئة وثلاثين عاماً. أحيتها ماريا تشوفيلينا على مسرح «المركز الثقافي الروسي» مساء أمس، قبل أن تنتقل إلى قراءة احترافية منفردة لقصتي تشيخوف «دراما» و«الحذاءان»، بأداء رائع من ممثلة شابة مفعمة بالحياة والانفعالات.

تمثل تشوفيلينا جيلاً من الممثلين الشباب، يحمل على أكتافه الفن في روسيا الاتحادية اليوم، ويرتقي به. فمنذ تخرجها من «معهد شيبينسكي للفنون» قبل سبع سنوات، حتى نيلها لقب ممثلة «الفيلارمونيا المسكوبية الحكومية»، تنوعت خيارات العمل الإبداعي أمامها. فجمعت بين المسرح الكلاسيكي ومسرح الأطفال، ثم القراءة الاحترافية للنصوص الأدبية، وصولاً إلى السينما. وفي جعبتها اليوم نحو ثلاثين عملاً سينمائياً ومتلفزاً.

وقد عملت مع عدد كبير من المخرجين اللامعين منذ العام 2009، حيث شاركت في أفلام منها، «الأختان»، و«حب غجري»، و«مدرّس القانون»، و«مغني الأفراح»، ثم ما لبثت أن تألقت في أفلامها الأخيرة التي ما زالت تعرض على الشاشات، ومنها، «علامة في طريق الحقيقة»، و«الموسم الملتهب»، و«ابن الغابة»، وغيرها. ذلك بالإضافة إلى مسرحيات ذات شهرة كبيرة، منها، «عن فيرا وأنفيسا» لأوسبينسكي، و«ملكة الثلج»، و«المهرِّجان». وفي المسرح النقدي السياسي الحديث شاركت في أعمال منها «وقعت قطعة الجبن» للمخرج فلاد مالينكو، و«المغنية الصلعاء» لشيشينيوف.

إلا أن الأداء المدهش لماريا أمام جمهور ملأ القاعة أمس، جاء في إطار قراءتها لنصوص أدبية فكاهية جمعتها من خزائن تشيخوف، وتيفي، وأفيرتشنكو، وزوشينكو، وفامبيلوف. ذلك البرنامج الذي يحمل عنوان «إنه الفن أيها الناس!»، حملته ماريا إلى مدن روسيا الاتحادية، وقدّمته إلى الجمهور فيها. وحظي الناطقون بالروسية في لبنان بمشاهدته أمس، قبل أن تنتقل ماريا إلى العاصمة الأردنية لتحيي أمسية مشابهة الأسبوع المقبل. تقول تشوفيلينا: «قدمت إلي «منظمة التعاون الروسية» دعوة، بصفتي أمثل الفنانين الشباب في روسيا الاتحادية. وذلك بناء على تقدير المنظمة لبرنامجي. وهي المرة الأولى التي أقدمه فيها خارج الحدود، فقد اعتدت التجوال بين المدن في روسيا». تشير تشوفيلينا إلى أن «للغة دوراً كبيراً في التفاعل مع المؤدي على خشبة المسرح، خصوصاً أنني أقدم نصوصاً أدبية كلاسيكية. أحياناً أشعر بالقلق من إهمال بعض المفردات في اللغة المعاصرة، فمع الزمن لا يتم استعمالها. وقد حفظتها النصوص الأدبية لنا». تشوفيلينا تعتبر أن «تجربة الأداء أمام الناطقين بالروسية في لبنان تختزن تحدياً خاصاً، وذلك يعتمد على سعة قاموسهم الكلاسيكي. لكن النتيجة كانت مذهلة، فاختيار النصوص الفكاهية أتى موفقاً، ومن السهل فهم الفكاهة، كما أرى، وتفاعل الجمهور المحلي مع النصوص المنتقاة أتى رائعاً». ثم إن «أدب أنطون تشيخوف معروف بشكل جيد لدى مختلف الأعمار في بلادنا، وذلك بالغ الأهمية، لما تحمله قصصه من غنى لغوي من جهة، وتصويره لشخصيات عصره من جهة أخرى».

قراءة النصوص الأدبية الكلاسيكية، من قبل مؤدين محترفين، فنٌ رائج في روسيا الاتحادية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. وهو يحظى بعناية خاصة من قبل وزارتي الثقافة والتعليم في تلك البلاد. ويُدعى الفنانون إلى قراءة النصوص الأدبية في المدارس والجامعات بشكل منتظم، يتيح للطلاب التواصل الدائم مع النص وكاتبه ومفردات عصره. وقد احتفلت الأوساط الفنية في روسيا الاتحادية العام الفائت بمرور مئة عام على القراءات الاحترافية الأولى للنصوص الأدبية. كما يحظى قسم قراءة النصوص الأدبية في «الفيلارمونيا المسكوبية الحكومية» باحترام خاص، إلى جانب كليات المسرح التقليدي، والمعاصر. عن عملها مع النصوص تضيف تشوفيلينا: «أعمل مع المخرج بافل لوبيمتسيف، وهو مخرج مسرحي وقارئ نصوص جيد، ولديه برنامج تلفزيوني كذلك. شرعت معه في عدد من البرامج على الرغم من كوني لست تلميذته. من البداية اختار النص الذي تعجبني تأديته، أي ما يؤثر فيّ شخصياً. ثم نناقش تفاصيل العمل، وإمكانية إضافة مواد أخرى إليه. وننتقي المواد بعناية قبل التدرب على أدائها. والعمل هنا ليس سهلاً، وهو أصعب بالتأكيد من الأداء المسرحي المنفرد».

وتجدر الإشارة إلى أن مسارح موسكو باتت تغص بالمشاهدين، الذين يودون التفاعل مع قراء النصوص الأدبية المحترفين، وتشهد إقبالاً من الأجيال الشابة، ذلك بعد فتور مرحلي لحق بهذا النوع من الفنون في تسعينيات القرن الماضي إثر انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. ويغذّي الموجة الجديدة من الإقبال، ظاهرة موازية، بدعم حكومي، تتمثل بتسجيل صوتي لكتب الأدب الكلاسيكي، حيث يندر أن تجد رواية، أو مجموعة قصص لم تسجل بأصوات ممثلين مشهورين، بل بات بالإمكان الحصول على عدد من روائع أدب القرن التاسع عشر بأداءات مختلفة. وذلك يسهّل إلى حد كبير انتشار تلك الأعمال الأدبية، ويجعلها متاحة للجميع، ما يحفّز على الاستماع إليها من قارئ محترف على خشبة المسرح.

تقارن تشوفيلينا بين أداءين «على خشبة المسرح، يختفي الممثل وراء عناصر كثيرة تلعب على حواس المشاهد، منها الزي، والديكور، والموسيقى، والإضاءة، أما في عملنا على قراءة النصوص فالوضع مختلف، إذ يخرج قارئ النصوص إلى المشاهدين عارياً من كل تلك المؤثرات. وعليه بالتالي أن يجتذب المشاهد بأدائه وانفعالاته، بقلبه وروحه، بعينيه». تتوقف ماريا طويلاً عند تلك العلاقة التي تحدث بين قارئ النص والمشاهد، فهي مع كل مرة تقف فيها أمام جمهور مختلف تستحضر روح النص لتقدّمه، بلذة كبيرة. فتلك العلاقة، بالنسبة إليها، لا يمكن ترجمتها بكلمات، هي بالفعل ما يمكن التعبير عنه بعبارة «ما يحدث هنا والآن».



المصدر السفير
25/05/2013





® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com