|
عودة الى أدب وفن
الموسيقى لا تعرف "الفوتوشوب" - نصير شمه
في جلسة جمعتني مع بعض الأصدقاء الكتاب، وكنا نتحدث خلالها عن انعكاس الواقع في كتابة القصة أو الحكاية، وعن كيفية بناء اللحظة الواقعية بشكل إبداعي كتابي، وجدت نفسي ابتعد قليلا، مستعيدا لحظات كثيرة مؤلمة وقاسية تحولت إلى إبداع قد لا يلحظه التاريخ المدون الحقيقي للوقائع، لأن مهمة التاريخ دائما كانت نقل وتدوين الصورة تبعا للمدون، حيث يتدخل فيها أحيانا التزوير، أو وجهات النظر المعاكسة للوقائع.
فكرت بالقابلية الكبيرة للتاريخ المدون على التزوير والكذب، بل الخديعة، بما لها من دلائل خبيثة ومشوّهة للحقيقي، فكرت أيضا بكتب التاريخ وما وصلنا منها، بالحقيقي والعادل والكاذب الخادع. التاريخ يسرد احداثيات معينة مزودة بالوثائق والأرقام والوقائع ليتأكد صدقه، لكن كل ما تسرده كتب التاريخ يظل سطحيا على الأرض، على القشرة الخارجية لهذا الكون، لا يستطيع التاريخ إلا أن يكون على الخارج ككاميرا تنقل الصورة، وأحيانا بوجود مصور ماهر يستطيع التلاعب بالفوتو شوب ليدون ما ليس حقيقيا بوصفه حدثا حصل بشهود إثبات. لا أنوي هنا الحديث عن التاريخ، وفي الوقت نفسه أريد الحديث عنه بطريقة مغايرة وغير قابلة للكذب ولا للفوتو شوب، التاريخ الذي أقصده هو التاريخ العصي على التدوين من قبل المدونين، إنه تاريخ اللحظة التي تحفر على بساطتها بعمق في الروح؛ وتحيل اللحظة إلى سنوات، وربما إلى دهر. في الموسيقى، كما في سائر الفنون الإبداعية لا يلتفت المؤلّف إلى التاريخ المكتوب، فالتاريخ جاف وأرقامه تجافي الروح، وجدار القلب لا يبالي بالأرقام كثيرا ولا يحتاج إلى وثائق، وثيقة القلب هي اللحظة بما احتوته من فرح أو حزن أو حب. وعلى سبيل المثال استقي من تجربة خاصة كنت قد قمت فيها بتأليف وعيش شعور لحن «حدث في العامرية». العامرية لمن لا يعرفها كان ملجأ آمنا لمئات الأشخاص، من بينهم العديد من الأطفال الذين تفحموا جميعا، عندما زرت الملجأ بعد الفاجعة بأيام جلست في الوسط بين الجدران السوداء، الجدران التي لن تنطق أو تصرخ في كتب التاريخ، لكنني كنت أستمع إلى أصوات أنينها العميق، كنت أرى دموعها، وكنت أسمع أصواتا جنائزية تتصاعد من كل زاوية من زواياها، كنت أجلس تحت فتحة ضوء متشابكة تعكس أبيض النور مع أسود الموت، صهيل الألم مع صراخ الأطفال، كانت الفتحة في السقف كبيرة تشبه الطريق المرعب إلى شواهد المقابر، كانت ترسم تاريخ صاروخ حديدي قاتل ولئيم لكنها لا تسجل أبدا تاريخ الأنين. على مدار سبعة أيام كنت أذهب إلى الملجأ وأجلس على كرسي تحت فتحة الضوء، فيما رائحة الأجساد المتفحمة تهز كل شعرة ومسامة في جسدي لتتغلغل إلى العميق من روحي.. تلك اللحظة القاسية التي هبط بها الصاروخ سجلها التاريخ، لكن روحي لم تَر اللحظة بالشكل نفسه أبدا، فتاريخ الروح هو التاريخ الداخلي للألم لا التاريخ الخارجي للوقائع.. تشكلت روح «حدث في العامرية» بين الجدران السوداء، حيث تأتي نسوة ملتحفات بالأسود كل يوم ليضئن شموعا، أو ينثرن بخورا أو يبكين في صمت وهن يحاولن أن يستمعن إلى الكلمات الأخيرة التي صرخ فيها طفل إحداهن قبل أن يصبح ذكرى سوداء متفحمة.. يا للقسوة، التاريخ لم يدون النسوة الباكيات، لم يدون فتحة الضوء القاتلة، لم يدون الأنين ولا الدموع ولا الصراخ، التاريخ الجاف دون ارقام الضحايا والأسماء واليوم ونوع الصاروخ واسم القاتل والمقتول، اسم الضحية ومن تسبب بقتلها ومن مهّد لقتلها، وتداخل التزوير واستثمرت الضحايا وضاع الأنين. أعود للموسيقى، وأعود إلى عودي الذي احتضنته، لم أدوّن الأسماء، ولم أدوّن التاريخ وأبعدت صورة القاتل، ودونت اللعبة الأخيرة في يد طفل قبل الأنين الأخير، دونت قشعريرة جسدي وبكاء قلبي، دونت الرائحة التي انهكت كل حياة بي.. ودونت بكائي. المبدع يدون الحركة الداخلية للحدث، يدون التاريخ الآخر المختلف عن ذاك المتعارف عليه، يدون الدمعة وما تحفره من أخاديد، يدون اللحظة العصية على الخارجي وينفر من القشرة، يقلبها باتجاه اللب ولا يدون اللب، بل يدون أثر اللب في تشكل الثمرة.. المبدع يتحرك في الداخل بينما يتحرك التاريخ المدون في الخارج. الموسيقى وعاء الداخل، رائحته ولونه وصوته، إحساسه ولون الدم على جدار القلب. لأقل إن الموسيقى هي التاريخ الآخر الذي لم تتعرف عليه الوقائع إلا بوصفه ساحرا ملهما، ولم تدونه الأحداث أبدا بوصفه واقعا، فالواقع جاف، وكما قلت مخادع في أحيان كثيرة وخبيث مراوغ أيضا يعرف هندسة دقيقة للصور ويجمل البشع منها ويطمس جمال بعضها ببشاعة مقصودة.. بينما الإبداع حالة معاكسة تماما لا تراوغ أبدا ولا يعنيها التزوير، فالتزوير يتم في الصفقات الجافة، أما الموسيقى فلا تعنى بالصفقات لأنها عندما تعلن واقعا فإنما تعلن أثر هذا الواقع في الوجدان العميق. جدار القلب تاريخ لا تُعنى به كتب التاريخ، المسام أيضا تاريخ لا يتلمسه المدونون، الموسيقى كما الشعر والرسم قد تشكل تاريخا كاملا للوجدان عندما نقرأه بوسعنا أن نرى التاريخ الأصدق لما حدث في يوم كذا من شهر كذا ومن سنة كذا.. لا يهم التاريخ أبدا، وقائع القلب تدون الدمعة وفي كل مرة نقرأها سنشعر بالملوحة. وفي كل مرة سنستمع إلى مقطوعة موسيقية سنذهب عميقا في صدر تاريخ شخصي ربما يكون تاريخا سريا لأرواحنا، التاريخ الذي لا يعرف الفوتو شوب. * موسيقي عراقي 30/7/2015 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |