هــنـاك تـتحــرر مـن مـفهــوم الـلاجئــين
أحمد برقاوي: في فلسطين تكتشف ضيق المستعمرة وحرية القرية العربية



* راشد عيسى

في آذار الماضي تمكن الكاتب والمفكر الفلسطيني أحمد برقاوي من زيارة فلسطين، وبيت عائلته في طولكرم. كانت المرة الأولى التي يزور فيها الكاتب الفلسطيني، السوري الإقامة، بلاده، في إطار زيارة تنظمها السلطة الفلسطينية عادة كل عام لمثقفين في الشتات. كانت بالنسبة إليه تجربة مذهلة، دوّنها في كتاب دفع به أخيراً إلى الطبع. تجربة، وكتابة يسميها برقاوي وجدانية، وبالتالي هي تجربة كتابة مغايرة. هنا مقابلة مع الكاتب، الذي تختلف أساساً تسميته للتجربة، بين عودة، أو زيارة، أو سوى ذلك.

- دفعتَ إلى الطباعة بكتاب حول زيارة قمت بها إلى فلسطين، هل يمكن إدراج هذه الكتابة في إطار ما يمكن تسميته ثيمة العودة؟

لم أسمها العودة. كلمة العودة لا تنطبق على هذه الرحلة. مفهوم العودة يشير إلى أنك كنت في مكان وعدت إليه. أنت تذهب إلى الرحم الأصلي بوصفه رحماً معنوياً لا مادياً. أن تكون فلسطينياً خارج فلسطين يعني أنك في المكان المؤقت والزمان المؤقت. أنت تعود إلى مفهوم الدائم لمكانك وزمانك الدائم. فتشعر وكأنك تحررت من الاغتراب الذي يقلّل كثيراً من إحساسك بالثبات. الاغتراب خلخلة للروح. تحس أن الفضاء ضيق عليك وأنت تطأ أرض فلسطين تشعر بأن فضاءك قد اتسع للحد الذي تحتاج إلى وقت ضروري لتعلّم جناحيك الطيران. إن شئت سمّها العودة بوصفها مفهوماً أثيراً لدى الفلسطيني، وبوصفها مرتبطة بالحق. لكن أنت أمام تجربة وجودية بالمعنى الدقيق للكلمة. إن وجودك نفسه يكتسب معنى آخر. تخيل شعورك عندما تطأ قدماك الآن أرض أريحا، أولا يخالجك شعور بالدهشة، بالفرح، بالمأساة، بأنك فقدت الجاذبية. تصدمك الوقائع مباشرة، هذا الجبل الأجرد، فلسطين.

- إذاً يمكن الحديث عن فارق بين الصورتين، فلسطين التي في المخيلة، وفلسطين الواقع؟

لا. القضية لا تطرح على هذا النحو. القضية أنطولوجية وجودية. أنت لأول مرة لا تسأل عن الوقائع المعيشية. تشعر لأول مرة أن أحداً لا يستطيع أن يقول لك «ما دخلك». لأنك لأول مرة تتحرّر من مفهوم اللاجئ. لأول مرة تشعر بأنك قوي. لأول مرة تشعر كم عدوك ضعيف، رغم أنه محتل لأرضك.

تجربتي مختلفة عن تجربة أي لاجئ آخر، لأني واقعي من طولكرم، وأستطيع أن أفتح الآن باب بيتي وأدخله وأطلّ منه على العالم. لكن وأنت تتأمل العالم من خلال بيتك تستعيد فلسطينك مرة أخرى، على نحو هذا الوطن كله لي، لا معنى لبيتي من دونه.

في اللحظة التي اقتربت فيها، أنا وعبد الرحمن أبو القاسم، من طولكرم، وضاحية ذنابة، حيث بيتنا الذي يبلغ من العمر أكثر من قرنين من الزمن، قلت لصديقنا الذي يقلّنا: «دعني سأكتشف البيت وحدي»، وأشرت إليه هذا بيتي من دون أن يدلني أحد عليه. فتخيل تجربة شخص ولد لاجئاً وعاش لاجئاً وفجأة يدخل بيته.

البطل التراجيدي

- في الكتاب أنت تصف ما رأيت بطريقة وجدانية؟

نعم. تحدثت عن التجربة بوصفها تجربة وجدانية. عن الوقائع منذ وطئت قدمي أريحا حتى خروجي منها ثانية. تحدثت عن رام الله، بيت لحم، نابلس، طولكرم، كل المدن التي زرتها. لكن من حيث هي كتجربة وجدانية، وليس من حيث الوصف البارد للأشياء. مثلاً، بيت لحم، عندما تدخل هذه المدينة وترى الساحة التي تفصل بين مسجد عمر وكنيسة المهد تستدعي مباشرة زمنين حاضرين، تتخيل أن عمر جالس على زاوية من زوايا الساحة ويقرر أن يكون هنا مسجد. تتخيل أنه يدخل كنيسة المهد، ثم عندما تدخل كنيسة المهد تشعر بأنها أوسع كنيسة في الدنيا مع أنها صغيرة قياسا بالفاتيكان وآيا صوفيا. هنا ولد المسيح، وهنا مهده. كل مغارة لها قصة. عندما تخرج إلى زواريب بيت لحم القديمة تستحضر فكرة كم مرّ من البشر في هذا المكان. تتذكر قول درويش «كل الشعوب تزوجت أمي، وأمي لم تكن إلا لأمي...».

في أريحا تعرف ما معنى ذلك القول الذي كان يردده أبو عمار «شعب الجبارين». في نابلس تعرف كم كانت المأساة كبيرة أن تفصل نابلس عن دمشق. هي فعلاً دمشق الصغرى، بأسواقها، ونسائها، بفن عمارتها، بلهجتها.

- هل يمكن الحديث عن مفارقات المكان؟ في ثنائية المستوطنة، القرية على سبيل المثال؟

[ في الضفة الغربية يكفي أن تقارن بين القرية الفلسطينية والمستوطنة لتكشف بين عالمين، حقيقي وزائف. المستوطنة بناء موجود على أرض مسلوبة، مسوّرة بسور عالٍ. المستوطنة مسوّرة داخل الجدار العنصري، محمية ببرج مراقبة عال وبوابة تشعرك بالخوف لا بالأمان. أنت لا ترى أحداً، ولا تشعر بحركة داخل المستوطنة، في مقابلها ترى القرية الفلسطينية المشرعة على الريح، المتحررة من الأسوار. الأطفال يلعبون على الهضاب، ويلتقطون زهورا وأعشابا. يمرحون بحرية فتكتشف ضيق المستعمرة وحرية القرية. خوف المستعمر واطمئنان القرية، رغم الخوف من عدوك، وبالتالي تكشف عن الحقيقي والزائف، الدائم والمؤقت. خصوصاً حين يخاطبك شيخ وقور يمشي على عكاز في أحد الوديان المطلة على المستعمرة ويقول لك بلهجة فلسطينية عميقة «راحلين ياعمي، هذولا راحلين».

أصلاً إذا عددت مفردات المكان الصهيوني تكشف عن فلسفة للمكان غريبة عن أي مكان: المستعمرة، الجدار، الحاجز، برج المراقبة، المعبر، وكلها مفاهيم تريد أن تضيق المكان وتحده، وبالتالي هي مفاهيم تعبر عن وعي العدو وعقله. المستعمرة هي التكثيف الشديد لعقل العدو. فالمكان المسوّر هو ابن المراحل القديمة في التاريخ، وهو مكان للفرجة لا للعيش. أنت لا تستطيع أن تعيش في داخل الأسوار.

- هل زرت كل الأماكن التي خططت لزيارتها؟

لم أترك لحظة من الوقت تفلت مني، تشعر كم أن الزمن ثمين. ألقيت محاضرات في جامعة بير زيت، جامعة الاستقلال، مركز رام الله. أجريت مقابلات مع التلفزيون الفلسطيني، التقيت عدداً كبيراً من الأصدقاء والناس. شاركت بفاعليات مناهضة للاحتلال. درت القرى. وكنت دائماً أردد بيني وبين نفسي «كل هذه الأرض لي».

من اللحظات الوجدانية المؤثرة زيارة قبر أبو عمار وقبر محمود درويش. أنا عادة لا أزور القبور، بما فيها قبر أبي وأمي. لكن فكرة مصير البطل التراجيدي تنطبق على هذين الشخصين، حيث التراجيديا دائماً تنتهي بموت البطل. تقف أمام قبر أبو عمار وتتأمل: هذا الذي كان مالئ الدنيا وشاغل الناس. هو الآن هنا. وحين تدخل إلى مقره وترى كوفيته وكرسيه والأكياس التي وضعها أثناء الحصار، فإنك تقف وجها لوجه أمام المعنى السامي للوجود.

مع درويش كانت التجربة مختلفة. يبدو أن العلاقة مع الشاعر تشعرك بالحزن أكثر، لذلك ذرفت الدمع على قبر درويش، خصوصاً عندما خرجت من متحفه وتأملت كرسيه وطاولته وأقلامه ومسودات قصائده: أشياؤه حاضرة كلها، وتستعيد بعض القصائد التي تثير فيك الشجن. من بين ما أكتب في الكتاب حول الرحلة عن البطل التراجيدي السياسي، في مقابله البطل التراجيدي الشاعر. كلاهما كانت نهايته يونانية.


27/03/2013






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com